موقع الحطيم في البيت الحرام

موقع الحطيم في البيت الحرام

يُعد الحطيم أحد أبرز المعالم التاريخية والدينية في البيت الحرام، وهو موضع يكتسب قداسة خاصة بين المسلمين، نظراً لما ورد في شأنه من فضائل وآثار، وما يحمله من دلالات رمزية وتاريخية عميقة مرتبطة ببناء الكعبة المشرّفة. وقد ارتبط الحطيم بالكعبة منذ القِدم، وظلّ محتفظاً بمكانته الدينية والروحية على مر العصور، حتى أصبح موضعًا لا يُمكن إغفال الإشارة إليه في كل ما يتعلق بعمارة البيت الحرام ومناسك الحج والعمرة.

هذا المقال يتناول الحطيم من جوانبه المتعددة، بدءًا من تحديد موقعه الدقيق ضمن حدود الكعبة، وصولًا إلى تاريخه، وأهميته الشرعية، وموقعه في الوعي الإسلامي والتاريخي، مدعومًا بأقوال العلماء والمصادر الشرعية.

الموقع الجغرافي والدقيق للحطيم

الحطيم هو الفضاء الواقع بين الركن الشمالي للكعبة المشرفة (الركن العراقي) والركن الغربي (الركن الشامي)، ويحده من الشمال “جدار الحِجر” وهو الجدار المنحني على شكل نصف دائرة والمُحاذي للكعبة، ويقع الحطيم بالتحديد داخل الحِجر، أي ما بين الكعبة وجدار الحِجر. وهذا الموضع مكشوف للهواء وغير مشمول بالبناء الكعبوي الحالي.

ويُطلق على الحطيم أيضًا اسم “الحِجر” أو “حِجر إسماعيل”، على الرغم من أن هذا الأخير يُستخدم عادة للإشارة إلى كامل المساحة المحاطة بالقوس الحجري المبني إلى الشمال من الكعبة، بينما الحطيم هو تحديدًا المساحة التي كانت جزءًا من الكعبة عندما بناها إبراهيم عليه السلام، واستُثنيت لاحقًا من بناء قريش للكعبة حين قصرت بهم النفقة.

الحطيم وبناء الكعبة

للتعرّف على الحطيم وفهم أهميته، لا بد من الرجوع إلى مراحل بناء الكعبة، خاصة تلك التي وقعت في عهد النبي إبراهيم عليه السلام، ثم ما جرى في عصر قريش قبل البعثة النبوية.

عندما بُنيت الكعبة على يد إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام، كانت بناؤها يتخذ شكلًا مستطيلًا أطول من الشكل الحالي، وكان يشمل الحِجر أو ما يُعرف بالحطيم، أي أن هذه المساحة كانت داخلة ضمن الكعبة نفسها. ثم جاءت قريش قبل بعثة النبي ﷺ وأعادت بناء الكعبة ولكن بأموال حلال فقط، فلما قصرت بهم النفقة، أنقصوا من حجم الكعبة وأخرجوا جزءًا منها، وهو الحِجر أو الحطيم، وجعلوا له جدارًا على هيئة نصف دائرة.

وقد أقر النبي محمد ﷺ هذا البناء، لكنه أبدى رغبته في إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم:

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال لها: “يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة، ولجعلت لها بابين: بابًا يدخل الناس منه، وبابًا يخرجون منه، ولألصقتها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك حين بنوا الكعبة اقتطعوه من البيت”.

يتضح من هذا الحديث أن الحطيم كان جزءًا أصيلاً من الكعبة، وإخراجه منها كان لسبب مادي وليس تشريعيًا.

التسمية ومعانيها

اسم “الحطيم” اختلف المؤرخون في معناه، وقيل في اشتقاقه عدّة آراء:

1. أنه سُمّي بذلك لأن الناس يتحطّمون عنده ازدحامًا في الطواف.

2. وقيل لأن السيول كانت تحطمه وتحطم ما يُبنى فيه من جدران قبل إعادة ترميمه بشكل دائم.

3. وقيل لأنه مكان تحطيم الذنوب، نظرًا لفضله في استجابة الدعاء وغفران الذنوب.

أما “حِجر إسماعيل”، فليس هناك دليل قطعي يثبت أن إسماعيل عليه السلام وُلد فيه أو عاش فيه، ولكن قيل إن هاجر وابنها إسماعيل عليهما السلام كانا يبيتان فيه أو قريبًا منه، ومن هنا جاءت التسمية.

أهمية الحطيم في العبادات والطواف

من الجوانب الفقهية والعبادية، للحطيم مكانة مميزة في الطواف، حيث يجب على من يطوف بالكعبة أن يطوف من خارج الحطيم، أي من خارج جدار الحِجر، لأن الطواف لا يصح إلا حول كامل الكعبة، والحطيم – باعتباره جزءًا منها – لا يجوز المرور من داخله خلال الطواف، لأن هذا يُعد تقصيرًا في الطواف حول البيت كله.

أما في الصلاة، فإن الصلاة في الحطيم تُعتبر كأنها داخل الكعبة، وقد ورد عن النبي ﷺ أنه دخل الكعبة مرة، وصلى فيها ركعتين، ثم قال لعائشة رضي الله عنها:

“صلي في الحجر إذا أردت دخول الكعبة، فإنما هو قطعة منها”.

هذا التصريح النبوي يُعد حجة واضحة على أن الحطيم داخل في حكم الكعبة في كثير من الأحكام، خاصة في ما يتعلق بفضل الصلاة فيه.

أبعاد الحطيم وشكله المعماري

يتخذ الحطيم شكل قوس حجري نصف دائري يواجه الجدار الشمالي للكعبة، وهو مبني بارتفاع لا يزيد عن المتر والنصف تقريبًا، ويبلغ طوله من الشمال إلى الجنوب نحو 22 ذراعًا (حوالي 10 أمتار تقريبًا)، أما عرضه من الشرق إلى الغرب، فيبلغ نحو 10 أذرع (نحو 4.5 متر تقريبًا). وهذه الأبعاد قد تختلف قليلاً حسب مصادر المؤرخين والقياسات الحديثة.

هذا الجدار الحجري لا يلامس جدار الكعبة بل يبعد عنه بنحو 2.29 متر تقريبًا، مما يسمح بمرور الطائفين حوله بسهولة. وقد تم تجديد بناء هذا الجدار عدّة مرات عبر التاريخ، باستخدام مواد مقاومة، لضمان استمرارية رمزيته المعمارية والروحية.

أبرز الأحداث التاريخية المتعلقة بالحطيم

شهد الحطيم عبر العصور الإسلامية العديد من الأحداث المهمة، سواء في التاريخ المكي أو الإسلامي العام، ومن أبرزها:

• حادثة هدم الكعبة في عهد عبد الله بن الزبير، حيث أعاد بناء الكعبة وأدخل الحطيم فيها كما كان في عهد إبراهيم عليه السلام، استنادًا إلى ما قاله النبي ﷺ. لكنه لما قُتل، أمر الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بهدم البناء وإعادة الكعبة إلى ما كانت عليه في عهد قريش.

• الاهتمام الأموي والعباسي والفاطمي بالحطيم من حيث الترميم والتزيين، وقد تم الاعتناء بجدار الحطيم وتدعيمه في فترات متعددة لضمان سلامته.

• تسابق المسلمين عبر العصور على الصلاة والدعاء فيه، خاصة في الأوقات الفاضلة، كالعشر الأواخر من رمضان، وأيام الحج، وليالي القدر، نظرًا لما يُعتقد من أنه موضع إجابة دعاء ومغفرة.

الأحكام الشرعية المتعلقة بالحطيم

بحكم كونه جزءًا من الكعبة، للحطيم أحكام فقهية مميزة:

الحطيم في الوجدان الإسلامي

يتردد ذكر الحطيم في كتب السيرة والفقه والحديث، لما له من ارتباط بمراحل تأسيس الكعبة المشرفة، ولعلاقته المباشرة بسيرة الأنبياء عليهم السلام، وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام ومحمد ﷺ. وقد ظلّ موضع اهتمام الحجاج والمعتمرين، وموضع توقير خاص، نظرًا لكونه محلًا مباركًا يتوسط الحرم المكي.

كما أنه يُعد رمزًا من رموز الإخلاص والنية، فإخراج قريش له من بناء الكعبة لم يكن بدافع ترفي أو استهتار، بل بسبب حرصهم على استخدام مال حلال فقط في بناء البيت، وهي مفارقة أخلاقية عظيمة تُبرز حساسية موقع الحطيم في التاريخ الروحي للإسلام.

خاتمة

الحطيم ليس مجرد مساحة حجرية قرب الكعبة، بل هو موضع اجتمعت فيه معانٍ دينية وتاريخية وروحية عميقة. يكشف عن جذور الكعبة الأصلية كما بناها إبراهيم عليه السلام، ويُظهر حرص الشريعة على حفظ ما يمكن حفظه من آثار النبوة والتوحيد. كما أنه يربط بين الماضي التأسيسي للإسلام والحاضر الحي في شعائره، ويبقى موضع إجلال وتقدير، ومقصداً للمؤمنين في دعائهم وصلاتهم، وفي طوافهم حول البيت العتيق.

المصادر والمراجع:

1. ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الأول.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري بشرح صحيح البخاري.