العمر المناسب لمشاهدة التلفاز

العنوان المقترح: العمر المناسب للتلفاز للأطفال

تُعدّ مرحلة الطفولة المبكرة من أكثر المراحل حساسية في حياة الإنسان، حيث تتكوّن فيها البُنى الأساسية للنمو العقلي والنفسي والجسدي. وفي ظل الثورة الرقمية التي يشهدها العصر الحديث، أصبح التلفاز جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية في معظم البيوت، ووسيلة شائعة للترفيه وتمضية الوقت. غير أن هذا الوجود المكثف للتلفاز يطرح إشكاليات عدة، لا سيّما عند الحديث عن تعرّض الأطفال للشاشات في سن مبكر. فمتى يكون الطفل جاهزًا لمشاهدة التلفاز؟ وهل هناك سن محدد يجب تأجيل التعرض فيه للشاشة؟ وما هي الضوابط التي ينبغي اتباعها لضمان عدم التأثير السلبي على نمو الطفل؟ هذا المقال يعالج هذه التساؤلات بمقاربة علمية معمّقة وشاملة.

أهمية السنوات الأولى في تكوين شخصية الطفل

تشير الدراسات الحديثة في علم الأعصاب والتربية إلى أن السنوات الثلاث الأولى من حياة الطفل تُشكّل المرحلة الأكثر حرجًا في بناء الدماغ، حيث ينمو الدماغ بوتيرة مذهلة، وتُبنى ملايين الوصلات العصبية يوميًا استجابةً للتجارب الحسية والتفاعلات الاجتماعية. في هذه المرحلة، يعتمد الطفل على المحفزات الحسية المباشرة مثل الأصوات الطبيعية، اللمس، الحركة، والتفاعل البشري، لبناء فهمه للعالم.

تُظهر أبحاث علم النفس التنموي أن التحفيز السلبي، أو التحفيز المفرط وغير الموجه، مثل الجلوس أمام شاشة التلفاز لفترات طويلة، يمكن أن يعوق تطور المهارات اللغوية والاجتماعية والمعرفية للطفل. فالتلفاز، بطبيعته، يُقدم محتوى بصريًا ومسموعًا لا يستجيب لتفاعلات الطفل، مما يحدّ من التعلم القائم على التواصل.

توصيات منظمات الصحة العالمية

أصدرت منظمة الصحة العالمية (WHO) والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (AAP) توصيات صارمة حول تعرّض الأطفال الصغار للشاشات، وتحديدًا التلفاز. وجاءت أبرز هذه التوصيات على النحو التالي:

• للأطفال دون سن 12 شهرًا: يُمنع تمامًا تعرّض الطفل لأي شاشة، بما في ذلك التلفاز، الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، باستثناء مكالمات الفيديو الضرورية للتواصل العائلي.

• من 1 إلى 2 سنة: يجب الامتناع عن تعريض الطفل للشاشات. وفي حال دعت الضرورة لذلك، يُنصح بمشاهدة المحتوى مع أحد الوالدين وتقديم شروحات أثناء المشاهدة.

• من 2 إلى 5 سنوات: يُسمح بمشاهدة محتوى موجّه للأطفال لا يتجاوز ساعة واحدة يوميًا، ويُشترط أن يكون بإشراف مباشر من الأهل.

• فوق 6 سنوات: يمكن السماح بوقت شاشة أكثر مرونة، بشرط ألا يتداخل مع أوقات النوم، النشاط البدني، أو التفاعل الاجتماعي الواقعي.

تأثير مشاهدة التلفاز على النمو العقلي

يؤثر التلفاز على نمو الطفل من نواحٍ عدة، تختلف حسب العمر والمحتوى ومدة المشاهدة:

1. التأثير على اللغة

أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يقضون وقتًا أطول أمام التلفاز يتأخرون لغويًا مقارنة بأقرانهم الذين يقضون وقتًا أطول في التفاعل اللفظي مع البالغين. فاللغة تتطور من خلال التفاعل الحي، حيث يتعلم الطفل أن الكلمات مرتبطة بتجارب واقعية، وليس من خلال التلقي السلبي للمحتوى المسجّل.

2. التأثير على التركيز والانتباه

كثرة التعرض للمحتوى السريع والمكثف للتلفاز يؤدي إلى اعتياد الدماغ على الإشباع الفوري والانتقال السريع بين المشاهد، مما يقلل من قدرة الطفل على التركيز لفترات طويلة أو التعامل مع المهام المعقدة لاحقًا في المدرسة.

3. ضعف في المهارات الاجتماعية

التلفاز لا يقدّم ردود أفعال على تصرفات الطفل، ولا يتيح له تطوير مهارات الحوار، التعاطف، أو حل المشكلات، وهي مهارات لا تُكتسب إلا من خلال التفاعل مع أشخاص حقيقيين.

التأثير على النمو الجسدي والسلوكي

1. السمنة ونمط الحياة الخامل

مشاهدة التلفاز لوقت طويل ترتبط بشكل مباشر بزيادة خطر السمنة لدى الأطفال، نتيجة لقلة النشاط البدني، وترافق ذلك مع تناول وجبات خفيفة غير صحية أثناء الجلوس أمام الشاشة.

2. اضطرابات النوم

الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات، والمحتوى المثير، يسببان اضطرابات في إفراز هرمون الميلاتونين، ما يؤدي إلى صعوبات في النوم أو انخفاض جودة النوم لدى الأطفال.

3. السلوك العدواني وتقليد العنف

إذا تعرّض الطفل لمحتوى يحتوي على مشاهد عنف أو سلوكيات سلبية، حتى وإن كانت كرتونية، فقد يميل إلى تقليدها، خاصة في سن لم تتطوّر فيه القدرة على التمييز بين الخيال والواقع.

المعايير الأساسية لاختيار العمر المناسب

انطلاقًا من التوصيات العلمية، يمكن تحديد العمر الأنسب لمشاهدة التلفاز وفق العوامل التالية:

خطوات لتقنين مشاهدة التلفاز بطريقة صحية

تُعدّ الوقاية من التأثيرات السلبية لمشاهدة التلفاز ممكنة إذا ما تم اتباع إجراءات تربوية ووقائية ذكية:

1. البدء بتأخير المشاهدة قدر الإمكان: كلما تأخر تعرّض الطفل للشاشة، كانت النتائج على المدى البعيد أفضل.

2. الاختيار الدقيق للمحتوى: يجب أن يكون المحتوى تعليميًا، بسيط اللغة، خالٍ من العنف أو الرسائل الاستهلاكية.

3. المشاهدة المشتركة: الجلوس مع الطفل أثناء المشاهدة يمنح الفرصة لتحويل التجربة إلى تفاعل اجتماعي وتعليمي.

4. تحديد وقت المشاهدة مسبقًا: يجب أن تكون هناك قوانين واضحة بخصوص متى وكم يشاهد الطفل التلفاز يوميًا.

5. ربط المحتوى بالواقع: شرح العلاقة بين ما يراه الطفل وما يدور في واقعه يُساعده على إدراك الفروقات بين الحقيقة والخيال.

6. تعويض المشاهدة بأنشطة واقعية: ينبغي أن تكون مشاهدة التلفاز نشاطًا ثانويًا، يسبقه اللعب، القراءة، والأنشطة الحركية.

7. إبعاد التلفاز عن غرف النوم: من الأفضل أن يكون التلفاز في غرفة المعيشة لتجنّب العزلة والمشاهدة غير المراقبة.

التكنولوجيا البديلة: التطبيقات التعليمية والقصص الصوتية

في حال الحاجة إلى استغلال الشاشة بشكل مفيد، يمكن اللجوء إلى بدائل أكثر تفاعلية، مثل:

• التطبيقات التفاعلية التعليمية للأطفال.

• القصص الصوتية المخصصة لسن ما قبل المدرسة.

• الأغاني التربوية المترافقة مع حركات جسدية.

• برامج تعتمد أسلوب اللعب والمحاكاة بدل السرد التقليدي.

إلا أن هذه البدائل، رغم جدواها، لا تُغني عن التفاعل البشري المباشر، الذي يبقى المصدر الأول لنمو المهارات الأساسية لدى الطفل.

دور الأهل في غرس الثقافة الإعلامية

من الضروري أن يكون الأهل على دراية بمخاطر التعرض غير الموجّه للتلفاز، وأن يغرسوا في أبنائهم منذ الصغر الوعي حول الإعلام، حتى يتعاملوا لاحقًا مع المحتوى من منطلق نقدي لا استهلاكي.

هذا يتطلب أن يكون الأهل قدوة في الاستخدام الواعي للشاشات، وأن يوازنوا بين أوقات العمل والترفيه بعيدًا عن الإدمان الرقمي. كما يجب تهيئة بيئة منزلية تشجّع على الحوار، القراءة، واللعب الجماعي، وهو ما يسهم في تقوية الروابط الأسرية والتقليل من اعتماد الطفل على الشاشات كمصدر وحيد للمتعة.

خاتمة

لا يُمكن إنكار أن التلفاز قد يكون وسيلة تعليمية وترفيهية عند استخدامه بطريقة مدروسة وموجهة. غير أن التسرّع في تعريض الأطفال للشاشة، لا سيما في السنوات الأولى، يشكل خطورة كبيرة على النمو النفسي والمعرفي والاجتماعي. ولهذا، فإن الالتزام بالتوصيات العالمية، إلى جانب المراقبة الأبوية الواعية، يمثلان حجر الأساس في ضمان تجربة صحية وآمنة للطفل في عالم الإعلام الرقمي.

المراجع:

1. American Academy of Pediatrics (AAP). “Media and Young Minds.” Pediatrics, Vol. 138, No. 5, 2016.

2. World Health Organization. “Guidelines on Physical Activity, Sedentary Behaviour and Sleep for Children Under 5 Years of Age”, 2019.