أضرار السهر وقلة النوم

أضرار السهر وقلة النوم

يُعتبر النوم أحد أعمدة الصحة الجسدية والعقلية، وعملية حيوية ضرورية توازي في أهميتها الأكل والشرب. السهر المزمن وقلة النوم ليستا مجرّد عادات خاطئة أو جزءاً من أنماط الحياة الحديثة فحسب، بل هما عاملان أساسيان في تدهور الصحة العامة، يؤثران على كل عضو ونظام في الجسم، بدءاً من الدماغ وانتهاءً بالجهاز المناعي. تؤكد الأبحاث العلمية أن النوم ليس وقتاً خاملاً، بل فترة يقوم فيها الجسم بإصلاح ذاته، وتنظيم الهرمونات، وتثبيت الذكريات، وتجديد الطاقة العصبية والعضلية. وفي هذا السياق، يؤدي السهر وقلة النوم إلى اضطرابات واسعة النطاق تتداخل مع وظائف الجسم الحيوية وتؤثر على نوعية الحياة والمزاج والإنتاجية.

1. الاضطرابات العصبية والمعرفية

النوم يلعب دوراً محورياً في الحفاظ على وظائف الدماغ. فخلاله، يُعاد ترتيب المعلومات المكتسبة وتثبيت الذكريات، كما يجري تنظيف السموم التي تتراكم خلال فترات اليقظة، لا سيما بروتينات “بيتا أميلويد” المرتبطة بمرض الزهايمر. عندما يُحرم الدماغ من النوم أو يتعرّض لفترات نوم قصيرة ومتقطعة، تنخفض قدرته على التركيز، وتقل كفاءته في المعالجة المعرفية. يظهر ذلك في صورة بطء في ردود الأفعال، وتشتت الانتباه، وضعف في اتخاذ القرارات، واضطراب في الأداء المعرفي.

تؤكد الدراسات أن السهر المزمن يضاعف من احتمالية الإصابة بالاكتئاب، والقلق، واضطرابات المزاج. كما يرتبط انخفاض جودة النوم بزيادة الأفكار السلبية، وتدهور الصحة النفسية، والعجز عن التعامل مع التوترات اليومية. وتشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين ينامون أقل من ست ساعات يومياً لديهم معدلات أعلى من نوبات الهلع واضطرابات القلق العام.

2. التأثيرات الهرمونية والمناعية

خلال النوم، يُفرز الجسم مجموعة من الهرمونات الحيوية التي تنظم العمليات الأيضية والنمو، أبرزها هرمون النمو، وهرمون الميلاتونين، والكورتيزول. قلة النوم تتسبب في اختلال هذه التوازنات الهرمونية، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات الكورتيزول (هرمون التوتر) لفترات طويلة، وهو ما ينعكس سلباً على التوازن العصبي والمناعي.

السهر يؤثر كذلك على إفراز هرمون اللبتين (المسؤول عن الشعور بالشبع) ويزيد من هرمون الجريلين (المسؤول عن الشعور بالجوع)، مما يؤدي إلى اضطرابات الشهية وزيادة في استهلاك السعرات الحرارية. هذه الاضطرابات تمهد الطريق للإصابة بالسمنة ومتلازمة الأيض.

أما على المستوى المناعي، فقد أظهرت الأبحاث أن النوم غير الكافي يُضعف من كفاءة الجهاز المناعي ويقلل من إنتاج الخلايا التائية، مما يزيد من احتمالية الإصابة بالعدوى الفيروسية والالتهابات، ويقلل من فعالية اللقاحات.

3. التأثيرات القلبية والوعائية

تُعد قلة النوم من أبرز عوامل الخطر للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية. فقد بينت دراسات واسعة النطاق وجود علاقة مباشرة بين النوم القليل وارتفاع ضغط الدم، وزيادة خطر الإصابة بالسكتات الدماغية، والنوبات القلبية. أثناء النوم، يمر الجسم بمرحلة انخفاض في ضغط الدم، وهو أمر ضروري لاستعادة التوازن الوعائي. وعند السهر، يُحرم القلب من هذه المرحلة الحيوية، مما يؤدي إلى إرهاق عضلة القلب وزيادة معدل ضربات القلب في أوقات غير مناسبة.

السهر يزيد من الالتهابات المزمنة منخفضة الدرجة في الجسم، وهي حالة تُعتبر جذر العديد من الأمراض القلبية المزمنة. وتُظهر الأبحاث أن الأشخاص الذين ينامون أقل من ست ساعات يومياً هم أكثر عرضة للإصابة بتصلب الشرايين، خاصة عند ترافق هذا مع نمط حياة خامل وتغذية غير متوازنة.

4. الاختلالات الأيضية والسمنة

يرتبط السهر ارتباطاً وثيقاً بزيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. ذلك أن النوم غير الكافي يُقلل من حساسية الخلايا لهرمون الإنسولين، ويزيد من مستويات السكر في الدم. وتشير دراسات أن السهر المزمن يُحدث خللاً في العمليات الأيضية يُفاقم من مقاومة الإنسولين ويزيد من فرص تراكم الدهون الحشوية في الجسم.

هذا الخلل الهرموني والأيضي الناتج عن السهر لا يقتصر فقط على مرض السكري، بل يتجاوز ذلك إلى ارتفاع مستويات الدهون الثلاثية والكوليسترول الضار، مما يرفع من خطر الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائي، التي تُعد بوابة نحو أمراض القلب والكبد.

5. ضعف الأداء العقلي والمهني

قلة النوم تؤثر بشكل كبير على القدرة على التركيز، والتفكير التحليلي، والابتكار، وهو ما ينعكس سلباً على الأداء الأكاديمي والمهني. وقد توصلت عدة دراسات إلى أن الإنتاجية تقل بنسبة تصل إلى 30% عند الأشخاص الذين لا يحصلون على نوم كافٍ. كما يزداد معدل الأخطاء في العمل، وترتفع احتمالية الحوادث المهنية، خصوصاً في المهن التي تتطلب تركيزاً عالياً أو استخدام الآلات.

السهر لفترات طويلة يُضعف كذلك الذاكرة العاملة، ويُقلل من القدرة على تخزين المعلومات، وهو ما يجعل التعلم وتثبيت المهارات أمراً أكثر صعوبة. وعلى المدى الطويل، يُعتقد أن هذه التأثيرات قد تُسهم في تدهور معرفي مبكر، وظهور أعراض الشيخوخة العقلية في سن مبكرة.

6. الاضطرابات النفسية والاجتماعية

قلة النوم تزيد من التوتر والاندفاعية وتقلل من القدرة على التحكم في الانفعالات. لذلك، فإن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات النوم المزمنة يكونون أكثر عرضة للصراعات الاجتماعية، وسوء الفهم، والمشاكل العائلية. كما تؤدي قلة النوم إلى فقدان الشعور بالتعاطف والتفاعل الاجتماعي الإيجابي، وهو ما يُضعف من جودة العلاقات الاجتماعية ويزيد من العزلة.

وقد بينت أبحاث علم الأعصاب أن النوم غير الكافي يؤثر على مناطق الدماغ المسؤولة عن المعالجة العاطفية، مثل اللوزة الدماغية (Amygdala)، فيجعل الشخص أكثر عرضة للاستجابة العاطفية السلبية، وأقل قدرة على التعامل مع الضغوط والمواقف المعقدة.

7. اضطرابات في الجهاز الهضمي

قلة النوم ترتبط أيضاً باضطرابات في الجهاز الهضمي، منها متلازمة القولون العصبي، وزيادة الحموضة المعدية، وتأخر إفراغ المعدة. كما تشير الأبحاث إلى أن السهر يُحدث خللاً في التوازن بين ميكروبيوم الأمعاء (البكتيريا النافعة) مما ينعكس سلباً على عملية الهضم والمناعة، ويُسهم في التهابات مزمنة على مستوى الجهاز الهضمي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن السهر غالباً ما يرتبط بتناول وجبات ليلية غير صحية، ما يُضاعف من فرص زيادة الوزن واضطراب الهضم، ويزيد من احتمالية الإصابة بمرض الكبد الدهني غير الكحولي.

8. الأضرار الجلدية والتجميليّة

النوم الجيد يُحفّز عملية إصلاح الخلايا وتجديدها، خاصة خلايا الجلد. عند الحرمان من النوم، تنخفض قدرة البشرة على التجدد، مما يؤدي إلى بهتان لون البشرة، وزيادة الهالات السوداء، وظهور التجاعيد المبكرة. ويزيد السهر من إفراز هرمونات التوتر التي تُحفّز بدورها على زيادة الالتهابات الجلدية وحب الشباب.

وقد أظهرت دراسة سريرية نُشرت في “Clinical and Experimental Dermatology” أن الأشخاص الذين ينامون ساعات أقل من 5 ليلاً لديهم مؤشرات شيخوخة جلدية أسرع مقارنةً بمن يحصلون على ساعات نوم كافية.

جدول يوضح أبرز آثار السهر وقلة النوم حسب النظام العضوي:

الخاتمة العلمية

إن النوم ليس ترفاً ولا وقتاً ضائعاً، بل ضرورة بيولوجية لإعادة توازن الجسم والدماغ وتجديد الطاقات. السهر وقلة النوم تقوّضان هذا التوازن، وتُدخل الجسم في دوامة من الأضرار المعقدة التي تمس الصحة الجسدية والنفسية والوظيفية. ولهذا، فإن تبني عادات نوم صحية ومنتظمة يُعد من أهم الاستثمارات التي يمكن للإنسان القيام بها لحماية صحته وجودة حياته.

المراجع

1. Walker, M. (2017). Why We Sleep: Unlocking the Power of Sleep and Dreams. Scribner.

2. Medic, G., Wille, M., & Hemels, M. E. H. (2017). Short- and long-term health consequences of sleep disruption. Nature and Science of Sleep.