مقاصد الطهارة في الإسلام

مقاصد الطهارة في الإسلام

تُعد الطهارة من أبرز المبادئ التي اعتنى بها الإسلام، وجعلها شرطاً لصحة كثير من العبادات، كما اعتبرها عنوانًا للسلامة النفسية والجسدية، ودليلاً على صفاء العقيدة ونقاء السلوك. ولم تكن عناية الإسلام بالطهارة قاصرة على جانبها الظاهري فحسب، بل كانت مرتبطة بجملة من المقاصد الشرعية العليا، التي تتغلغل في بنيان الحياة الإسلامية، وتُسهم في تزكية الفرد والمجتمع. والمقاصد الشرعية من الطهارة تُعدّ من المفاهيم العميقة التي تستحق التأمل والدراسة؛ إذ إنها تربط بين الأحكام التفصيلية والغايات الكبرى التي جاء بها التشريع الإسلامي.

أولاً: تعريف الطهارة في الشريعة الإسلامية

الطهارة في اللغة تدور حول معنى النزاهة والنظافة والخلو من الدنس. أما في الاصطلاح الشرعي، فهي رفع الحدث وإزالة النجس أو ما في حكمهما، ويكون ذلك بالماء الطهور أو ما يقوم مقامه من التيمم، وتشمل الطهارة الحسية والمعنوية.

الطهارة الحسية تتعلق بنظافة الجسد والثوب والمكان من النجاسات الحسية، أما الطهارة المعنوية فهي تطهير القلب من الشرك والذنوب والمعاصي، وتزكية النفس بالإيمان والعمل الصالح.

ثانياً: أنواع الطهارة

تنقسم الطهارة إلى نوعين رئيسيين:

1. الطهارة المعنوية: وهي الأصل، وتتمثل في الإيمان بالله وحده لا شريك له، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، والتوبة من الذنوب وتزكية النفس.

2. الطهارة الحسية: وهي التي تتمثل في رفع الحدث الأكبر والأصغر، وإزالة النجاسة عن البدن أو الثوب أو المكان.

ويشتمل هذا النوع على مجموعة من الأحكام العملية مثل:

• الوضوء

• الغُسل

• التيمم

• إزالة النجاسة

ثالثاً: المقاصد الشرعية للطهارة

1. تحقيق عبودية الله تعالى

الطهارة في أصلها عبادة، وقد جعلها الله تعالى شرطاً لصحة كثير من العبادات كالصلاة والطواف وقراءة القرآن. والعبد حين يتطهر ينفذ أمر الله سبحانه، فيظهر خضوعه وانقياده لشرعه. ولذلك، فإن الطهارة تعبّر عن تمام العبودية، وتجسد المعنى الحقيقي للإسلام الذي هو الاستسلام لله طوعًا وانقيادًا.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ…﴾ [المائدة: 6].

2. تزكية النفس وتطهير القلب

من مقاصد الطهارة أنها تهيئ النفس للاقتراب من الله عز وجل، وتعدّ وسيلة لتزكية القلب، فكما يُطهّر الإنسان بدنه وثوبه ومكانه، فإن عليه أن يطهّر قلبه من الغل والحسد والضغينة. ولذلك قُرن بين الطهارة الظاهرة والطهارة الباطنة في نصوص الشريعة.

وقد قال النبي ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» [رواه مسلم]، إشارة إلى أن الطهارة لا تقتصر على النظافة الجسدية، بل لها بعد إيماني وروحي عميق.

3. تحقيق الصحة والنظافة العامة

الطهارة تسهم في الوقاية من الأمراض، وتحقيق الصحة العامة، والحفاظ على البيئة والمجتمع من مصادر التلوث. وقد سبق الإسلام غيره من التشريعات في إدراك الأثر المباشر للنظافة في الوقاية من الأوبئة والأمراض.

ويُعدّ فرض الغُسل عند الجنابة والحيض والنفاس، وغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وتنظيف الفم بالسواك أو غيره، من وسائل حفظ الصحة الجسدية، مما يعكس مقصدًا وقائيًا عظيمًا للشريعة.

4. التهيئة النفسية للعبادة

الطهارة تجعل الإنسان في حالة استعداد نفسي وروحي للعبادة، فتُهيئه للوقوف بين يدي الله بقلب خاشع ونفس مطمئنة. فالوضوء والغسل ليسا مجرد أفعال مادية، بل هما رمزان للتجرد من شواغل الدنيا، والدخول في حرم العبادة بنقاء جسدي وروحي.

5. تحقيق التميز الإسلامي الحضاري

الطهارة تُميز المسلم عن غيره من أتباع الديانات الأخرى أو من الغافلين، وتُعبر عن سمو تشريعه، فقد روى مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: «تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الوُضُوءُ»، وهذا يدل على أن للطهارة أثرًا حتى في الآخرة.

6. ترسيخ قيمة النظام والانضباط

من المقاصد التربوية للطهارة أنها تُعود المسلم على النظام والانضباط، من خلال الالتزام بأوقات معينة للطهارة (كالوضوء للصلاة)، والمحافظة على نظافته الشخصية، وإزالة النجاسة فور وقوعها، مما ينعكس على سلوك الإنسان في حياته اليومية.

7. تطهير المجتمعات من الفوضى والقذارة

بتشريع الطهارة، يحفظ الإسلام المجتمعات من انتشار الروائح الكريهة والمناظر المؤذية، ويُسهم في خلق بيئة نظيفة، مما يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع بأكمله، ويمنع الأمراض المتفشية نتيجة الإهمال في النظافة.

رابعاً: الطهارة في السنة النبوية

لقد أولى النبي ﷺ الطهارة اهتمامًا بالغًا، وجعلها جزءاً من سلوك المسلم اليومي. فقد جاء في الحديث: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ…» [رواه الترمذي].

وكان النبي ﷺ يحثّ أصحابه على التزام الطهارة في كل شؤونهم، مثل:

• تقليم الأظافر

• قص الشارب

• نتف الإبط

• غسل اليدين قبل الطعام وبعده

• السواك عند كل صلاة

وهذه التوجيهات النبوية لم تكن مجرد مظاهر، بل كانت لها مقاصد تربوية وصحية وروحية، تهدف إلى إعداد المسلم ليكون مثالاً للنظافة الظاهرة والباطنة.

خامساً: الطهارة مدخل إلى الحياة الكريمة

المجتمع المتطهر، الذي يلتزم أفراده بنظافة أجسامهم وبيئتهم وقلوبهم، هو مجتمع يتمتع بجودة حياة عالية، ويعبر عن رقيّ حضاري متميز. الطهارة ليست مجرد عادة فردية، بل سلوك جماعي له أثره في استقامة الأمة ونظافة بيئتها وتقدمها.

ولذلك، فإن الإسلام لم يربط الطهارة فقط بالعبادات، بل حثّ عليها في كل مناحي الحياة، وجعلها عنواناً للفرد الصالح والمجتمع الراشد.

سادساً: جدول توضيحي لمقاصد الطهارة

سابعاً: فقه الطهارة ومقاصده في كتب الفقه الإسلامي

تناولت كتب الفقه الإسلامي أحكام الطهارة بشيء من التفصيل، وبالرغم من التركيز الظاهر على الجوانب الفقهية الدقيقة، إلا أن هذه الكتب أظهرت أيضًا البعد المقاصدي للطهارة، خاصة في أبواب المياه، والنجاسات، والوضوء، والغُسل، والتيمم. وقد كان علماء المالكية من أبرز من اهتموا بالمقاصد في الطهارة، كما في كتابات الإمام الشاطبي، واهتم الشافعية والحنابلة والحنفية بالجوانب العملية والمقاصدية أيضًا.

ثامناً: العلاقة بين الطهارة والإيمان

الإيمان لا يستقر في قلب غافل، والطهارة وسيلة لتجديد هذا الإيمان باستمرار، فالعبد إذا توضأ غُفرت له ذنوبه، وإذا اغتسل تطهر قلبه، وإذا طهر ثوبه ومكانه طابت صلاته. ولذلك فإن العلاقة بين الطهارة والإيمان علاقة مباشرة ووثيقة، وكلما اعتاد المسلم الطهارة، رقّ قلبه، واستقامت جوارحه.

تاسعاً: الطهارة والبيئة في الإسلام

الرسول ﷺ كان يحذر من التلوث البيئي، فنهى عن التبول في الماء الراكد، وعن التنجيس في الطرق، وأمر بدفن الأذى، كما حث على إزالة الأذى من الطريق واعتبرها صدقة. وهذه التعليمات النبوية تعكس وعيًا بيئيًا متقدمًا، يُظهر كيف أن الطهارة لا تقتصر على الجسد بل تشمل البيئة بأسرها.

عاشراً: أثر الطهارة في السلوك الاجتماعي

الطهارة تُسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية، فالفرد النظيف محبب في المجتمع، وتزداد به الثقة والقبول. والنظافة ترفع الذوق العام وتحفز الآخرين على الاعتناء بأنفسهم، وهذا ينعكس إيجابًا على الترابط والتراحم في المجتمع.

المراجع:

1. الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة.

2. النووي، شرح صحيح مسلم.