مفهوم العنف وأسبابه

مفهوم العنف اصطلاحاً: تحليل شامل للأبعاد والمعاني والسياقات

يُعدّ مفهوم العنف من أكثر المفاهيم تعقيداً وتشعباً في الخطاب الإنساني، سواء على المستوى الفلسفي أو القانوني أو الاجتماعي أو النفسي. ويكمن هذا التعقيد في تعدد أشكاله، وتنوع دوافعه، وتداخل دلالاته مع مفاهيم أخرى مثل القوة، الإكراه، العدوان، والسلطة. إنّ فهم العنف اصطلاحاً يتطلب الغوص في جذوره المفهومية وتحليل السياقات التي يُستخدم فيها، كما يستدعي الوقوف عند أبعاده المعرفية والتاريخية والنفسية والثقافية.

يُعرف العنف اصطلاحاً بأنه استخدام القوة أو التهديد باستخدامها بصورة متعمدة، سواء كانت مادية أو نفسية أو لفظية، بهدف إلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين أو إخضاعهم أو تقييد حرياتهم أو فرض إرادة معينة عليهم. هذا التعريف يشير إلى أنّ العنف لا ينحصر فقط في الأذى الجسدي، بل يشمل الأذى المعنوي والانفعالي والرمزي، ويمتد إلى النظم الاجتماعية التي تُنتج القهر واللامساواة.

في هذا المقال، سيتم التعمق في فهم هذا المفهوم من خلال محاوره الأساسية: الجذر اللغوي، التفسير الاصطلاحي، السياقات الاجتماعية والسياسية للعنف، أشكاله، وتحولاته التاريخية، بالإضافة إلى تحليله من منظور علم النفس والفلسفة والاجتماع.

الجذر اللغوي لمفهوم العنف

تعود جذور الكلمة في اللغة العربية إلى مادة (عَنُفَ) أي خَرَجَ عن اللين والرِّفق، ويُقال “عَنُفَ به” أي اشتدّ عليه وتجاوز حدود المعقول من الغِلظة. في اللغة، العنف نقيض للّين، وهو استعمال القسوة في القول أو الفعل. ويُشتقّ منها أيضًا “عنيف” وهو الشخص الذي يتسم بسلوك عدواني أو قاسٍ.

أما في اللغات الأجنبية، فإنّ الكلمة المقابلة لـ”العنف” بالإنجليزية هي Violence، والمأخوذة من الكلمة اللاتينية “violentia” التي تعني القوة غير المنضبطة، أو الاستخدام القاسي للقوة الجسدية أو الرمزية، ما يعكس طبيعة مشتركة بين اللغات في ربط العنف بالإفراط في استعمال القوة أو تجاوز حدود المشروعية.

التعريف الاصطلاحي للعنف

العنف اصطلاحاً هو مفهوم اجتماعي مركّب يشير إلى أفعال أو ممارسات تنطوي على استخدام متعمد وغير مشروع للقوة أو الضغط من أجل السيطرة أو الإيذاء أو تحقيق غايات معينة على حساب إرادة الآخر أو كرامته أو حقوقه. وقد عرفه بعض الفلاسفة بأنه “انتهاك لحق الآخر في السلام والكرامة”، بينما عرّفته منظمات حقوق الإنسان بأنه “كل فعل يؤدي إلى إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي أو الجنسي أو الاقتصادي بالفرد أو الجماعة، سواء كان مباشراً أو غير مباشر”.

ويتجلى هذا المفهوم في عدة مستويات: الفردي، الأسري، المجتمعي، والمؤسسي، كما أنه لا يقتصر على العنف الجسدي فقط، بل يشمل العنف اللفظي، الرمزي، البنيوي، الاقتصادي، السياسي، والجندري.

الأبعاد المعرفية للعنف

لفهم العنف اصطلاحاً لا بد من التوقف عند الأبعاد المعرفية التي تحيط به، وهي كما يلي:

• البعد النفسي: يرى علماء النفس أنّ العنف قد يكون انعكاساً لاضطرابات نفسية أو نتيجة للتنشئة الاجتماعية العنيفة، كما يمكن أن يكون وسيلة دفاعية أو إسقاطاً لمشاعر الإحباط والقلق.

• البعد الفلسفي: في الفلسفة، يُنظر إلى العنف كمعضلة أخلاقية تتعلق بالخير والشر، وغالبًا ما يُناقش ضمن إشكالية العلاقة بين السلطة والحرية. كما يُطرح في إطار التساؤلات حول مدى مشروعية استخدام القوة لتحقيق العدالة.

• البعد الاجتماعي: ينظر علم الاجتماع إلى العنف على أنه سلوك مكتسب، مرتبط بالبنية الاجتماعية والعوامل الاقتصادية والثقافية، ويرتبط غالباً بالتمييز الطبقي، أو غياب العدالة، أو تفكك الروابط الأسرية.

• البعد القانوني: يشير إلى مدى تجريم أفعال العنف في القوانين المدنية والجنائية، حيث يُعاقب عليها تبعًا للضرر الواقع ونوع الجريمة المرتكبة.

العنف من منظور علم الاجتماع

يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أنّ العنف يتجسد أحياناً في صور غير مرئية، أطلق عليها اسم “العنف الرمزي”، وهو العنف الذي يُمارَس عبر اللغة والرموز والسلطة الثقافية والتربوية، ويهدف إلى ترسيخ الهيمنة على الآخرين دون اللجوء إلى العنف المادي.

أما عالِم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، فقد ربط العنف بمفهوم السلطة، حيث عرّف الدولة بأنها الكيان الذي يحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل مجتمع معين، ما يعني أنّ العنف يمكن أن يكون مشروعاً ضمن سياقات قانونية ومؤسسية.

أشكال العنف

إنّ تعدد أشكال العنف هو ما يجعل هذا المفهوم بالغ التعقيد. وفيما يلي أبرز أشكاله:

التحول التاريخي لمفهوم العنف

على مرّ العصور، تغيّر تصور العنف باختلاف الأطر الفلسفية والسياقات التاريخية. ففي العصور القديمة، كان يُنظر إلى العنف كضرورة لحماية الدولة أو تحقيق العدالة (كما في الفلسفة الرومانية). أما في القرون الوسطى، فقد ربطته الديانات بالذنوب والفساد الأخلاقي، فيما رأت الثورات الحديثة أنّ العنف قد يكون أداة شرعية للتحرر (مثل الثورة الفرنسية).

في القرن العشرين، خاصة بعد الحربين العالميتين، اتجهت الأنظمة القانونية والمؤسسات الدولية إلى تقنين العنف، ومحاولة الحدّ منه عبر إعلانات حقوق الإنسان واتفاقيات جنيف، ونصوص القانون الدولي الإنساني.

العنف وعلاقته بالسلطة

من أبرز المسائل التي طُرحت في تحليل العنف اصطلاحاً هي علاقته بالسلطة. ففي حين تعتبر السلطة شكلاً من أشكال التنظيم المجتمعي القائم على الشرعية، فإنّ العنف غالباً ما يكون هو الوجه الخفي أو القسري لها، أو بالأحرى الآلية التي تُفرض بها السلطة حين تتآكل شرعيتها. وهنا تظهر إشكالية العلاقة بين السلطة والعنف كما صاغها المفكر الألماني “هانّا أرندت”، التي أكدت أن السلطة الحقيقية لا تحتاج إلى العنف، وأنّ استخدام العنف مؤشر على ضعف السلطة لا قوتها.

العنف في الفكر المعاصر

يرى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو أن العنف ليس مجرد أداة بيد السلطة، بل هو متغلغل في كل مستويات الحياة، بدءاً من المدارس والمستشفيات إلى مؤسسات الأمن والقانون. ويؤكد أن العنف ليس بالضرورة مباشراً أو دموياً، بل قد يتجلى في ممارسات الرقابة والمراقبة، وإنتاج المعرفة، وتنظيم الأجساد والعقول.

أما نعوم تشومسكي، فقد ركز على العنف المؤسسي الذي تمارسه الدول الكبرى تحت غطاء الحرب على الإرهاب أو نشر الديمقراطية، مشيراً إلى أن هذا النوع من العنف غالباً ما يُمارس بصمت، ويحظى بشرعية دولية رغم نتائجه الكارثية.

الفرق بين العنف والقوة

من المهم التمييز بين العنف والقوة كمصطلحين مترابطين لكن غير متطابقين. فالقوة قد تكون مشروعة وتستخدم لتحقيق غايات قانونية أو دفاعية (مثل استخدام الشرطة للقوة لتفريق مظاهرة عنيفة)، بينما العنف غالباً ما يحمل صبغةً غير مشروعة لأنه ينطوي على الإكراه خارج إطار الشرعية.

الخلاصة المفاهيمية

إنّ العنف اصطلاحاً يتجاوز مجرد الأذى الجسدي إلى منظومة سلوكية وفكرية متشابكة، يتم فيها استخدام القوة أو الرموز أو الخطاب أو السياسات لإخضاع الآخر أو تحطيم كيانه. وهذا ما يجعله ظاهرة متعددة الأوجه، ويستدعي معالجته بمنهجية شمولية تراعي أبعاده النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية، في سبيل بناء عالم أكثر عدلاً وأقل عنفاً.

المراجع:

1. بيير بورديو، العنف الرمزي، ترجمة: نظير جاهل، المركز الثقافي العربي.

2. هانا أرندت، في العنف، ترجمة: جورج كتورة، المنظمة العربية للترجمة.