معالجة الفقر في الإسلام

معالجة الإسلام لمشكلة الفقر

تُعَدُّ مشكلة الفقر من أقدم وأعقد المشكلات الاجتماعية التي عرفتها البشرية، وقد نالت حظًّا واسعًا من اهتمام النظم الوضعية والفلسفات الأخلاقية والاقتصادية على مر العصور، إلا أن الحلول التي طرحتها هذه النظم اتسمت بالقصور أو الانحياز، إما لصالح الأغنياء كما في الرأسمالية، أو بمصادرة الحريات الفردية كما في الاشتراكية. أما الإسلام، فقد عالج مشكلة الفقر معالجة شاملة، تأخذ في الاعتبار الجانب الروحي، والاقتصادي، والاجتماعي، والقانوني، وتبني توازناً دقيقاً بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والمجتمع، وبين الغنى والفقر.

يمتاز التصور الإسلامي للفقر بكونه لا يعدّ الفقر فضيلة ولا عيبًا بحد ذاته، بل هو حالة اجتماعية طبيعية تتطلب تدخلًا أخلاقيًا واقتصاديًا تشريعيًا لضمان الحد الأدنى من الكفاف لكل فرد مسلم، ومن ثم تهيئة البيئة التي تُمكّن الأفراد من النهوض بكرامتهم المعيشية.

أولاً: المفهوم الإسلامي للفقر

يرى الإسلام الفقر بأنه نقص في المال أو الموارد التي تفي بالحاجات الأساسية للإنسان من مأكل، وملبس، ومسكن، وعلاج، وتعليم، وأمان اجتماعي. وقد وردت إشارات كثيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى الفقراء والمساكين، وتنوَّعت الأوصاف والإحالات إليهم، مما يعكس اهتمامًا مركزيًا بهذه الشريحة.

قال تعالى:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ…} [التوبة: 60]

وفي الحديث الشريف:

“اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر” [رواه أبو داود].

الفقر في الإسلام ليس قدرًا مقدسًا يُسلَّم به، بل هو مشكلة يجب مقاومتها ومعالجتها، لأنه يُفضي إلى ضعف العقيدة، وضياع الكرامة، والتعرض للذلّ، والتسول، والوقوع في المحرمات.

ثانيًا: المبادئ التأسيسية لمعالجة الفقر في الإسلام

1. التكافل الاجتماعي

يرتكز النظام الإسلامي على مبدأ التكافل، وهو التزام جماعي يضمن ألا يبيت أحد جائعًا أو عاريًا أو مشردًا في مجتمع مسلم. هذا التكافل لا يقوم على الإحسان العرضي، بل على قواعد مؤسسية وتشريعية تحدد من له الحق ومن عليه الواجب.

2. العدالة في توزيع الثروات

الإسلام لا يدعو إلى مساواة اقتصادية مطلقة، ولكنه يضع ضوابط على تركُّز الثروة بيد فئة محدودة دون غيرها، قال تعالى:

{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]

وتتجلى هذه العدالة من خلال منظومة الزكاة، وحق الفقير، وتحريم الربا، ووجوب الإنفاق، وتقييد الاكتناز.

3. العمل كقيمة محورية

رفع الإسلام من شأن العمل واعتبره الوسيلة الأساسية لطلب الرزق، وجعل الكسب الحلال عبادة، وحث على الإنتاج والاعتماد على الذات.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده” [رواه البخاري].

ثالثًا: الأدوات التشريعية لمكافحة الفقر

1. الزكاة

الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي نظام اقتصادي واجتماعي فريد، يجمع بين التعبد والتكافل. تُفرض الزكاة على الأموال الزائدة عن الحاجات، وتُصرف إلى ثماني جهات أبرزها: الفقراء والمساكين.

الزكاة ليست صدقة طوعية، بل حق مالي للفقراء، وقد وصفها القرآن بذلك صراحة:

{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24-25].

2. الصدقات والتبرعات

بجانب الزكاة الواجبة، شجّع الإسلام على الصدقات التطوعية، باعتبارها سبيلًا للترقي الروحي، وسد الفجوات الاجتماعية، وقد قرن الإنفاق بالجنة في أكثر من موضع:

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا…} [البقرة: 245].

3. الوقف

يعد الوقف أحد أهم الأدوات الحضارية التي استخدمها المسلمون لمحاربة الفقر، فكان الوقف يُخصص لبناء المستشفيات، والمدارس، ودور الأيتام، وتوزيع الأغذية. وهو مؤسسة مالية خيرية تضمن استدامة العطاء، وحماية الموارد من الضياع.

4. تحريم الربا

من أعمق المعالجات الإسلامية للفقر تحريم الربا، لأنه يزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وينقل الثروة من المنتجين إلى المرابين، ويقتل روح التعاون.

قال تعالى:

{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276].

5. الإرث والوصايا

من خلال نظام الإرث المفصَّل، يمنع الإسلام تراكم الثروة في يد فئة واحدة، ويوزّع المال بين الورثة بميزان دقيق، ويُسمح للفرد بوصية لا تتجاوز الثلث تُصرف على الفقراء أو أوجه البر.

6. إعانة العاطلين والغارمين

شرع الإسلام تفريج كُربة الغارمين (المديونين) وسداد ديونهم، واهتم بالمعسرين، حتى لو كانت ديونهم بسبب إسراف أو خطأ في التقدير. كما اهتم بمساعدة العاطلين عن العمل، بتوفير فرص التدريب والإعالة المؤقتة.

رابعًا: البُعد الروحي في محاربة الفقر

يرتبط البعد الروحي بمعالجة الفقر ارتباطًا وثيقًا، لأن الإسلام يُعلي من قيمة الرضا، والقناعة، والتوكل، ويجعل القلب غنيًا حتى إن فَقَد الجسد المال.

قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس” [رواه مسلم].

هذا لا يعني الرضا بالفقر، بل يعني التوازن بين طلب الرزق الحلال والسعي فيه، وبين القناعة بما قسم الله وعدم التذمر أو اللجوء إلى الحرام.

خامسًا: النماذج التاريخية لتطبيق سياسة محاربة الفقر في الإسلام

الدولة النبوية في المدينة

أسس النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعًا متكافلًا في المدينة، فعند قدوم المهاجرين من مكة، آخى بينهم وبين الأنصار، وضمن لهم السكن والطعام والعمل. وكان بيت مال المسلمين ينفق على الفقراء واليتامى والأرامل.

عصر عمر بن عبد العزيز

في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، بلغ التكافل الاجتماعي ذروته، حتى لم يجد عمّال الزكاة فقراء يعطونهم المال، نتيجة العدالة في التوزيع، ونظام الزكاة المُفعّل، وإعفاء المزارعين من الضرائب الجائرة، وتفعيل الوقف والصدقات.

سادسًا: المقاربة الإسلامية ومقارنتها بالنظم المعاصرة

على الرغم من أن الرأسمالية المعاصرة تدعي دعم الفقراء عبر برامج الضمان الاجتماعي، إلا أن منظومتها تقوم على تراكم الثروة لدى فئة محدودة، بينما الاشتراكية بالغت في تذويب الملكية الفردية. أما الإسلام، فتميّز بتوازن دقيق؛ إذ يحمي الملكية الفردية، لكنه يقيدها بالحق العام، ويحظر الإضرار بالفقراء.

سابعًا: آثار معالجة الفقر في الإسلام

• تحقيق الأمن المجتمعي: تقليص معدلات الجريمة والاضطراب.

• رفع مستوى الإنتاج: بإدماج الفقراء في دورة الاقتصاد.

• تعزيز التماسك الاجتماعي: من خلال تضامن الأغنياء مع الفقراء.

• تقوية الوازع الديني: لأن البذل والإنفاق يُنميان الروح الإيمانية.

ثامنًا: تحديات معاصرة أمام تطبيق النموذج الإسلامي

رغم وضوح المنظومة الإسلامية، إلا أن تطبيقها في العصر الحديث يواجه تحديات مثل:

• ضعف دور مؤسسة الزكاة في بعض البلدان.

• تفكك منظومة الوقف الخيري.

• سيطرة الفكر الرأسمالي على السياسات الاقتصادية.

• ضعف الوازع الديني لدى الأغنياء.

إن تفعيل نظام الزكاة، وإحياء الأوقاف، وإدماج التكافل الاجتماعي في التخطيط التنموي، يمكن أن يقدّم حلاً واقعيًا ودائمًا لمشكلة الفقر في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بعيدًا عن الحلول الترقيعية العابرة.

المراجع

1. يوسف القرضاوي، “دور الزكاة في معالجة المشكلات الاقتصادية”، دار الشروق، القاهرة، ط3، 1994.

2. عبد الرحمن بن خلدون، “المقدمة”، دار الفكر، بيروت.