معنى الاستنشاق والاستنثار في الوضوء

معنى الاستنشاق والاستنثار

يُعدّ الاستنشاق والاستنثار من السنن المؤكدة في الطهارة الإسلامية، وهما من الأفعال التي تتجلى فيها عناية الشريعة الإسلامية بالنظافة الشخصية والوقاية الصحية. إنهما جزء من خطوات الوضوء الذي يعد شرطًا لصحة الصلاة، مما يُضفي على هذه الأفعال بعدًا تعبديًا يتجاوز مجرد التنظيف الظاهري إلى كونه ممارسة روحية وجسدية متكاملة.

تعريف الاستنشاق والاستنثار

الاستنشاق:

الاستنشاق هو إدخال الماء إلى الأنف أثناء الوضوء، ويكون ذلك باستنشاقه عن طريق جذب النفس قليلًا بالماء داخل الأنف. وهو من سنن الوضوء الثابتة عن النبي ﷺ، ويُراد به تنظيف باطن الأنف من الأوساخ والغبار، ويُفضّل المبالغة فيه ما لم يكن الشخص صائمًا، كما ورد في الحديث الشريف:

“وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا” (رواه أبو داود والترمذي).

الاستنثار:

الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه، ويُستخدم غالبًا في إزالة ما قد يكون عالقًا في فتحتي الأنف من أذى أو أوساخ. وهو مكمّل لعملية الاستنشاق، وله أثر في تخليص الأنف من الجراثيم ومسببات الحساسية.

وقد جمع النبي ﷺ بين هذين الفعلين في أحاديث عديدة، مما يدل على أهميتهما في الوضوء والطهارة.

الأصل الشرعي للاستنشاق والاستنثار

ثبتت مشروعية الاستنشاق والاستنثار بالسنة النبوية القولية والعملية. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه في وصف وضوء النبي ﷺ أنه قال:

“فمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه…”

كما جاء في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:

“وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا” (رواه أبو داود والترمذي).

هذه النصوص تؤكد أن الاستنشاق والاستنثار سنن ثابتة في الوضوء وليسا مجرد أعمال طبية أو نظافية.

الحكم الفقهي للاستنشاق والاستنثار

اتفقت المذاهب الفقهية الأربعة على سنّية الاستنشاق والاستنثار في الوضوء، مع وجود بعض الخلاف في وجوبهما:

• المالكية والشافعية والحنابلة: يرون أن الاستنشاق والاستنثار سنّة من سنن الوضوء، وليسا من فروضه.

• الحنفية: يرون أن الاستنشاق واجب على الرجل دون المرأة، ويُستحب للمرأة، ويُعتبر تركه مكروهًا.

وقد اتفق العلماء على أن المبالغة فيهما مندوبة ما لم يكن الشخص صائمًا، وذلك خشية دخول الماء إلى الجوف.

الطريقة الصحيحة للاستنشاق والاستنثار

تتم عملية الاستنشاق والاستنثار وفقًا للسنة النبوية على النحو الآتي:

1. أخذ الماء بكف اليد اليمنى.

2. استنشاق الماء بإدخاله إلى الأنف بنفس خفيف.

3. الاستنثار باستخدام اليد اليسرى لإخراج الماء من الأنف.

ويُستحب أن يُكرر هذا الفعل ثلاث مرات، أسوةً بفعل النبي ﷺ.

الحكمة من مشروعية الاستنشاق والاستنثار

تكمن وراء مشروعية هذين الفعلين عدة حِكَم عظيمة تجمع بين النظافة والطهارة التعبدية، ومن أبرز هذه الحكم:

1. تنظيف الأنف من الشوائب:

الأنف مدخل الهواء للجهاز التنفسي، ويُعتبر من أبرز أماكن تراكم الغبار والجراثيم. فالاستنشاق والاستنثار يساعدان على تنظيف فتحات الأنف وإزالة العوالق.

2. الوقاية من الأمراض التنفسية:

أثبتت الدراسات الطبية أن تنظيف الأنف بالماء الدافئ يسهم في التقليل من التهابات الجيوب الأنفية ومسببات الحساسية الموسمية. وهذا ما تحققه سنة الاستنشاق والاستنثار بشكل طبيعي دون الحاجة إلى مواد كيميائية.

3. تنشيط الدورة الدموية:

يُعتقد أن تمرير الماء داخل الأنف يعمل على تنشيط الأوعية الدموية في الأغشية المخاطية، مما يزيد من فعالية الأنف في ترشيح الهواء الداخل إلى الجسم.

4. الاستعداد للوقوف بين يدي الله:

الطهارة ليست فقط نظافة بدنية بل هي إعداد معنوي وروحي للعبادة، والاستنشاق والاستنثار يشكلان جزءًا من هذا التحضير الجسدي والنفسي للصلاة والوقوف بين يدي الله.

الاستنشاق والاستنثار في غير الوضوء

ليست مشروعية الاستنشاق والاستنثار مقصورة على الوضوء، بل يمكن أداءهما في سياقات أخرى تتعلق بالنظافة والطهارة:

• عند الاستيقاظ من النوم: ورد عن النبي ﷺ قوله:
  
  “إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه” (رواه البخاري ومسلم).

• في غسل الجنابة: حيث يُستحب المبالغة في الاستنشاق لتأكيد الطهارة التامة.

• في الغسل من الحيض والنفاس: باعتبار الغسل الكامل يشتمل على جميع سنن الطهارة.

الاستنشاق والاستنثار في الطب الحديث

الطب الحديث يُقر بأهمية غسل الأنف بالماء، بل ويعتبره وسيلة فعالة في:

• علاج التهابات الجيوب الأنفية.

• تقليل أعراض الحساسية الأنفية.

• إزالة البكتيريا والفيروسات من ممرات الأنف.

• ترطيب الغشاء المخاطي ومنع جفافه.

وهنالك وسائل طبية حديثة تُعرف بـ”الري الأنفي” (Nasal irrigation) والتي تعتمد على فكرة غسل الأنف بمحلول ملحي، وهي عملية متقدمة تُحاكي الاستنشاق والاستنثار الذي علمنا إياه الإسلام منذ أكثر من 14 قرنًا.

مقارنة بين الري الأنفي الطبي والاستنشاق الشرعي

الأضرار المحتملة للإفراط في الاستنشاق

رغم فوائد الاستنشاق والاستنثار، إلا أن الإفراط أو القيام بهما بشكل خاطئ قد يؤدي إلى:

• دخول الماء إلى الجيوب الأنفية مما قد يسبب صداعًا أو التهابات.

• وصول الماء إلى الحلق خاصة عند الصائم، مما يُفسد الصيام.

• استخدام ماء غير نظيف قد يؤدي إلى التهابات أو عدوى.

لذا وجب التنبيه على استخدام ماء نظيف وطريقة صحيحة كما وردت في السنة.

الاستنشاق والاستنثار وأثرهما في تنمية الطهارة الحسية والمعنوية

يُعتبر هذا العمل التعبدي البسيط وسيلة فعالة لتأكيد حرص المسلم على نظافة ظاهره وباطنه. فالمواظبة على سنن الطهارة تنعكس على سلوك الفرد، وتجعله أكثر شعورًا بالمسؤولية تجاه نظافة جسده وبيئته، وتُسهم في تعزيز ثقافة النظافة العامة داخل المجتمع الإسلامي.

أهمية تعليم الأطفال سنة الاستنشاق والاستنثار

ينبغي تعليم الأبناء منذ نعومة أظفارهم هذه السنن، لما لها من أثر تربوي وصحي. ويمكن استخدام أساليب تعليمية ممتعة، مثل:

• الممارسة العملية أمام الطفل.

• تحفيزه على تقليد الكبار.

• شرح الحكمة الصحية والدينية من ورائها بلغة مبسطة.

خلاصة فقهية وصحية

إن الاستنشاق والاستنثار من السنن المؤكدة التي وردت عن النبي ﷺ، وهي تُمثل اندماجًا رائعًا بين الطهارة الروحية والجسدية. كما أنها تُثبت سبق الشريعة الإسلامية في تبني مفاهيم النظافة والصحة العامة، بطريقة تدمج بين العبادة والفائدة الصحية.

وقد أثبتت التجربة الحديثة والبحوث الطبية فاعلية هذا السلوك في الوقاية والعلاج من كثير من أمراض الجهاز التنفسي، مما يجعل من هذه السنة النبوية قيمة عظيمة يجب على المسلم المحافظة عليها وتوريثها للأجيال القادمة.

المراجع

1. صحيح البخاري، حديث رقم: 185

2. كتاب “الطب النبوي” لابن القيم الجوزية