الإظهار المطلق في التجويد

الإظهار المطلق في علم التجويد: تعريفه، أنواعه، وأحكامه

يُعد علم التجويد من أرقى العلوم الإسلامية التي تُعنى بصيانة اللفظ القرآني عن اللحن والخطأ، وهو علم يُعنى بإعطاء الحروف حقها ومستحقها من الصفات والمخارج، كما يُعنى بالأحكام الصوتية التي تطرأ على الحروف حال تلاوتها متجاورة أو متعاقبة. ومن هذه الأحكام الدقيقة التي أولى علماء التجويد لها عناية خاصة، ما يُعرف بـ”الإظهار المطلق”، وهو فرع نادر ومحدود من أحكام النون الساكنة والتنوين. ورغم ندرته، إلا أن الإظهار المطلق يمثل مثالاً فريداً على دقة وضبط أئمة التجويد لمواضع النطق القرآني.

في هذا المقال، سيتم التطرق إلى تعريف الإظهار المطلق، والفرق بينه وبين سائر أنواع الإظهار، ومواضعه المحددة، بالإضافة إلى توضيح سبب تسميته بالمطلق، وأهميته في حفظ الأداء القرآني.

تعريف الإظهار المطلق

الإظهار لغةً هو البيان والإيضاح، واصطلاحًا هو إخراج الحرف من مخرجه من غير غنة ظاهرة ولا إدغام ولا قلب. أما الإظهار المطلق تحديدًا، فهو نوع خاص من الإظهار يظهر فيه حرف النون الساكنة وجوبًا إذا جاء بعده أحد حروف الإدغام الستة، ولكن في كلمة واحدة فقط.

والقاعدة العامة في علم التجويد تقول إن النون الساكنة إذا جاء بعدها أحد حروف الإدغام الستة (يرملون: ي، ر، م، ل، و، ن)، فإنها تُدغم في الحرف الذي يليها. ولكن في حالات نادرة جدًّا، تقع النون الساكنة قبل أحد هذه الحروف في كلمة واحدة، وهنا لا يُطبق الإدغام، بل يُظهر النون الساكنة إظهارًا وجوبيًا، ويسمى هذا النوع بـ”الإظهار المطلق”.

الفرق بين الإظهار المطلق والإظهار الحلقي

الإظهار في أحكام النون الساكنة والتنوين ينقسم إلى قسمين رئيسيين:

1. الإظهار الحلقي: وهو الإظهار الذي يكون إذا جاء بعد النون الساكنة أو التنوين أحد الحروف الستة (ء، هـ، ع، ح، غ، خ)، وهي الحروف التي تخرج من الحلق، وسُمِّي حلقيًا نسبة إلى مخرجها.

2. الإظهار المطلق: يختلف عن الإظهار الحلقي من حيث المعيار، فهو لا يتعلق بمخرج الحرف، وإنما يتعلق بموضع وقوع الحرفين (النون الساكنة أو التنوين، ثم أحد حروف الإدغام الستة) في كلمة واحدة، وهو لا يُوجد إلا في كلمات معدودة جدًا في القرآن الكريم.

سبب التسمية بـ”الإظهار المطلق”

سُمِّي هذا النوع من الإظهار بـ”المطلق” لأنه لم يُقيد بكونه في كلمتين كما هو الحال في الإدغام، ولم يُقيد أيضًا بحروف الحلق كما هو الحال في الإظهار الحلقي. فهو “مطلق” من حيث عدم تقييده بمخرج الحرف أو انفصال الكلمتين.

كما أن هذا الإظهار لا يخضع للقاعدة العامة التي تقضي بإدغام النون الساكنة في حروف “يرملون”، بل يُظهر النون رغم وجود أحد حروف الإدغام بعدها، مما يجعله شاذًا أو مستثنًى من القاعدة العامة، ولذلك سُمِّي “إظهارًا مطلقًا”.

شروط الإظهار المطلق

يشترط في الإظهار المطلق شرط أساسي واحد:

• أن تقع النون الساكنة قبل أحد حروف الإدغام في نفس الكلمة.

وهذا هو الفرق الجوهري بينه وبين الإدغام؛ إذ إن الإدغام لا يقع إلا إذا كانت النون الساكنة في نهاية كلمة، والحرف الذي بعدها في بداية الكلمة التالية.

أما إذا اجتمعا في كلمة واحدة، فإنه يتعذر الإدغام لأن الكلمة لا تُدغم في نفسها، فيُظهر الحرفان للحفاظ على وضوح النطق والمعنى.

أمثلة الإظهار المطلق في القرآن الكريم

يوجد الإظهار المطلق في أربع كلمات فقط في القرآن الكريم، وهي كلمات قليلة جدًّا، مما يعكس ندرته وخصوصيته. وهذه الكلمات هي:

في هذه الكلمات، جاءت النون الساكنة متبوعة بأحد حروف الإدغام (الياء أو الواو) في نفس الكلمة، وبالتالي لم يُطبق الإدغام بل أُظهرت النون نطقًا، تحقيقًا للإظهار المطلق.

حكم الإظهار المطلق

أجمع علماء التجويد على أن الإظهار المطلق واجب في هذه الكلمات الأربع، ولا يجوز الإدغام فيها مطلقًا، لأن الإدغام لا يكون في كلمة واحدة.

وقد وردت هذه الكلمات بالرواية المتواترة عن النبي محمد ﷺ، فنُقلت إلينا بالنقل الصوتي الصحيح عبر القرّاء المتقنين، الذين استقرّ عندهم النطق بهذه الكلمات بإظهار النون الساكنة رغم ورود أحد حروف الإدغام بعدها، مما يجعل الإظهار المطلق ليس فقط قاعدة نظرية بل سنة عملية ثابتة.

أهمية فهم الإظهار المطلق في علم التجويد

تتجلى أهمية الإظهار المطلق في عدد من النقاط الجوهرية، منها:

• حماية النص القرآني من التحريف: إذ إن إغفال الإظهار المطلق وتحويله إلى إدغام قد يؤدي إلى التباس أو تغيير في المعنى.

• تأصيل التلاوة الصحيحة: إذ يمثل التزام هذه القواعد الدقيقة صورة من صور اتباع ما نُقل عن رسول الله ﷺ في أداء القرآن.

• إبراز الإعجاز الصوتي للقرآن: حيث يُظهر التمييز الصوتي الدقيق بين الكلمات وأصواتها، وكيفية نطقها في سياقها الكامل، مما يعكس جماليات الأداء القرآني.

أخطاء شائعة في الإظهار المطلق

نظرًا لندرة مواضع الإظهار المطلق، فإن كثيرًا من القراء المبتدئين يقعون في أخطاء تتعلق بإدغام النون في هذه المواضع، ومن أبرز هذه الأخطاء:

1. إدغام النون في حرف الإدغام الذي يليها داخل الكلمة نفسها، مثل نطق كلمة “الدنيا” بإدغام “الن” في “يا”، وهذا خطأ شائع يجب الحذر منه.

2. عدم ضبط النون الساكنة بالسكون التام، مما يجعلها غير ظاهرة كليًا أو تُنطق بتراخٍ.

3. الخلط بين الإظهار المطلق والإظهار الحلقي، حيث يظن بعض القراء أن جميع حروف الإظهار تتبع نفس القاعدة، في حين أن الإظهار المطلق له قاعدة مستقلة خاصة.

العلاقة بين الإظهار المطلق وباقي أحكام النون الساكنة

في علم التجويد، تمر النون الساكنة والتنوين عند وقوعها أمام حروف الهجاء بأربعة احتمالات، وهي:

1. الإظهار: إذا جاء بعدها أحد حروف الحلق.

2. الإدغام: إذا جاء بعدها أحد حروف “يرملون”.

3. الإقلاب: إذا جاء بعدها حرف الباء.

4. الإخفاء: إذا جاء بعدها أحد الحروف الخمسة عشر المتبقية.

لكن في حالة الإظهار المطلق، فإنه يُستثنى من قاعدة الإدغام، ويُعامل معاملة الإظهار، على الرغم من أن الحرف التالي من حروف الإدغام، بشرط أن يكون في الكلمة ذاتها، لا في كلمتين.

الفروق الدقيقة التي تدل على عمق علم التجويد

إن أحكام التجويد في عمقها لا تقتصر على مسائل ظاهرية، بل تتضمن توازنًا دقيقًا بين الأداء الصوتي والدلالة اللغوية والمعنوية، ومن هنا جاءت دقة الإظهار المطلق لتكشف عن:

• دقة السماع عند القرّاء الأوائل، وقدرتهم على التمييز بين النون المظهرة والمُدغمة حتى في أدق المواضع.

• أهمية السياق التركيبي للكلمة، فموضع الحرف داخل الكلمة يلعب دورًا أساسيًا في الحكم الصوتي.

• استقرار الرواية القرآنية عبر الأجيال، حيث وُثِّقت هذه الأحكام في كتب القراءات والتجويد منذ القرون الأولى للإسلام.

خاتمة علمية

يعد الإظهار المطلق نموذجًا من نماذج التوازن الدقيق في التلاوة القرآنية، وهو فرع محدود في عدد مواضعه، عميق في دلالته، دقيق في أدائه، لا يظهر إلا من خلال تعلم التجويد على يد المشايخ المتقنين، والاهتمام بتفاصيل نطق الحروف كما نُقلت إلينا بسند متصل عن النبي ﷺ. ويدعو هذا النوع من الإظهار القراء والمتعلمين إلى تعميق وعيهم بأهمية الأداء الصوتي كأحد أركان التلقي القرآني الصحيح.

المراجع:

1. ابن الجزري، النشر في القراءات العشر، تحقيق: علي محمد الضباع، دار الكتب العلمية، بيروت.

2. الإمام الجمزوري، تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن.