كوكب عطارد: دراسة شاملة عن أصغر كواكب المجموعة الشمسية وأقربها إلى الشمس

يُعتبر كوكب عطارد من أكثر الأجرام السماوية إثارة للاهتمام في النظام الشمسي، فهو الكوكب الأقرب إلى الشمس والأصغر حجماً بين الكواكب الثمانية المعروفة. يحتل عطارد موقعاً مميزاً يجعله محوراً رئيسياً في دراسة الفلك والعلوم الكوكبية، لما يكتنفه من خصائص فيزيائية وفلكية فريدة تجعل منه كوكباً يستحق البحث والتحليل العميق. في هذا المقال سيتم استعراض تاريخ اكتشافه، خصائصه الفيزيائية والفلكية، تركيبته الداخلية، جوه، حركته المدارية، وأهم ما توصل إليه العلم الحديث من معلومات حوله.

موقع كوكب عطارد في النظام الشمسي

عطارد هو الكوكب الأول من حيث القرب إلى الشمس، ويقع على بعد متوسط حوالي 57.9 مليون كيلومتر من الشمس، أي ما يعادل حوالي 0.39 وحدة فلكية (وحدة فلكية = متوسط المسافة بين الأرض والشمس). موقع عطارد قرب الشمس يجعله يعيش في بيئة شديدة الحرارة والإشعاع، كما يؤثر ذلك على العديد من ظواهره الطبيعية، بدءاً من درجات الحرارة السطحية وصولاً إلى تركيب غلافه الجوي.

تاريخ اكتشاف كوكب عطارد ودراسته

عُرف عطارد منذ العصور القديمة، فقد رصده الإنسان القديم عبر السماء بوضوح بسبب لمعانه، إلا أنه ظل غامضاً إلى حد بعيد بسبب قربه من الشمس وصعوبة رؤيته في النهار. لم يتوفر للبشر إلا القليل من التفاصيل حوله حتى مع تطور التلسكوبات، حيث كان التحدي الأكبر هو مشاهدة عطارد وسط وهج ضوء الشمس.

بدأت الدراسة العلمية الدقيقة لعطارد في القرن العشرين مع إطلاق مهمات فضائية استطاعت الاقتراب منه ودراسة سطحه وجوه مباشرة. من أبرز هذه المهمات كانت مركبة مارينر 10 التي أطلقتها وكالة ناسا في سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت أول مهمة تصل إلى عطارد وتقوم بتصويره. تلتها مهمة مسنجر (MESSENGER) التي قدمت بيانات مفصلة عن جغرافية عطارد وتركيبه الكيميائي والجيولوجي، وأخيراً مهمة بي بي إس تي (BepiColombo) المشتركة بين وكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء اليابانية، والتي ما زالت ترسل بيانات حتى الآن.

الخصائص الفيزيائية لكوكب عطارد

الحجم والكتلة والكثافة

يُعد عطارد أصغر كواكب النظام الشمسي، حيث يبلغ قطره حوالي 4879 كيلومتر، وهو يعادل حوالي 38% من قطر الأرض، وكتلته تساوي حوالي 5.5% من كتلة الأرض فقط. رغم صغر حجمه، يتميز عطارد بكثافة عالية تصل إلى نحو 5.43 غرام لكل سنتيمتر مكعب، وهذه الكثافة العالية تعكس وجود نواة معدنية كبيرة تملأ الجزء الأكبر من حجم الكوكب.

التركيب الداخلي

أظهرت الدراسات أن عطارد يمتلك نواة ضخمة من الحديد والنيكل تغطي حوالي 85% من قطره، وهي نسبة أكبر بكثير من النسب الموجودة في كواكب أخرى مثل الأرض. هذا الأمر يفسر كثافة الكوكب العالية وقوته الجاذبية السطحية. تحيط بالنواة طبقة من الصخور الصلبة تشكل القشرة والوشاح، وسمك هذه الطبقة أقل نسبياً مما هو عليه في كواكب أخرى.

السطح الجغرافي والجيولوجي

يمتاز سطح عطارد بأنه مليء بالفوهات الصدمية التي تشبه تلك الموجودة على القمر، ويعود سبب ذلك إلى تعرض الكوكب المستمر لمئات الملايين من السنين من اصطدامات النيازك والكويكبات. لا يوجد على عطارد نشاط بركاني حديث أو تكتوني واضح، مما يشير إلى أن سطحه قديم ومستقر نسبياً.

يتميز السطح بوجود ما يُسمى “شُقوق الانكماش” التي تنتج عن تبريد الكوكب وانكماشه عبر الزمن. هذه الشقوق تظهر على شكل حواف صخرية مرتفعة ومنخفضة. هناك مناطق ذات تضاريس مسطحة واسعة تسمى “سهول إقليمية”، وأخرى جبلية مرتفعة.

الغلاف الجوي والمناخ

يعتبر غلاف عطارد الجوي ضعيفاً للغاية، ويتكون من ذرات متناثرة جداً من عناصر مثل الأكسجين، الصوديوم، الهيدروجين، الهيليوم والبوتاسيوم. بسبب شدة الجاذبية السطحية المنخفضة وغياب الغلاف الجوي الكثيف، لا يحتفظ عطارد بجو مستقر. تتسرب جزيئات الغاز إلى الفضاء بسرعة كبيرة.

يُعرف عن عطارد تباين درجات الحرارة الشديد بين النهار والليل. في النهار قد ترتفع درجة الحرارة على سطحه إلى حوالي 430 درجة مئوية، أما في الليل فقد تنخفض لتصل إلى حوالي -180 درجة مئوية. هذا التفاوت يعود إلى عدم وجود غلاف جوي يحافظ على الحرارة أو يوزعها على سطح الكوكب.

حركة عطارد المدارية والدورانية

يمتلك عطارد مداراً بيضاوياً حول الشمس، مما يعني أن بعده عن الشمس يتغير بشكل كبير خلال السنة. تبلغ فترة دورانه حول الشمس 88 يوماً أرضياً فقط، وهو أقصر مدار في النظام الشمسي. أما دورانه حول محوره فهو بطيء نسبياً، حيث يدور مرة واحدة كل 59 يوماً أرضياً، ولكن العلاقة بين دورانه حول محوره وحركته المدارية تؤدي إلى ظاهرة تسمى “الاحتجاز المداري” أو “الدوران الرزمي”، التي تجعل اليوم على عطارد (فترة الوقت بين شروق الشمس مرتين متتاليتين) يساوي تقريباً 176 يوماً أرضياً.

الجاذبية على عطارد

نظرًا لصغر حجم الكوكب، فإن جاذبيته السطحية أقل بكثير من جاذبية الأرض، وتبلغ حوالي 38% من جاذبية الأرض. هذا يعني أن الأجسام على سطح عطارد تزن أقل من وزنها على الأرض، وهو عامل مهم في فهم حركة المواد على الكوكب وسلوك الغبار والمواد السطحية.

تأثيرات عطارد على علم الفلك والثقافة

منذ القدم، لعب كوكب عطارد دورًا بارزًا في الميثولوجيا والثقافات الإنسانية، حيث كان يرمز إلى السرعة والذكاء في العديد من الحضارات، مثل الإغريق والرومان. اسمه مشتق من الإله الروماني “عطارد” Messenger، إشارة إلى سرعته الكبيرة في السماء.

في المجال العلمي، ساعدت الدراسات عن عطارد في فهم طبيعة الكواكب الصخرية الصغيرة، وآليات تكوين الأنوية المعدنية الضخمة، إضافة إلى تقديم نماذج لفهم تطور الكواكب في نظامنا الشمسي وخارجه.

التحديات المستقبلية في دراسة عطارد

رغم التقدم الكبير في استكشاف عطارد، إلا أن هناك العديد من التساؤلات المفتوحة حول تفاصيل تركيبته الداخلية، تطور سطحه، ومصدر غلافه الجوي الضعيف. المهمات المستقبلية مثل BepiColombo تسعى إلى توفير بيانات جديدة تساعد في حل هذه الألغاز.

جدول مقارنة بين عطارد وكواكب أخرى

الخلاصة

يمثل كوكب عطارد نموذجاً فريداً في دراسات الكواكب الصخرية، يجمع بين خصائص فيزيائية استثنائية، مدار سريع وقرب شديد من الشمس، مما يخلق بيئة قاسية للغاية. لا يزال عطارد مصدر جذب كبير لعلماء الفلك الذين يسعون لفهم أصول الكواكب الصخرية وتطورها، وكذلك لفهم كيفية تعامل الأجسام الكوكبية مع الظروف القاسية. إن اكتشاف المزيد عن عطارد يفتح آفاقاً لفهم أعمق للنظام الشمسي بأكمله.

المصادر

• NASA – Mercury Overview: https://solarsystem.nasa.gov/planets/mercury/overview/

• ESA – BepiColombo Mission: https://www.esa.int/Science_Exploration/Space_Science/BepiColombo