مظاهر عدل الله

مقدمة حول عدل الله

العدل صفة من صفات الكمال الإلهي التي يتجلى فيها عظمة الخالق وحكمته البالغة، وهو من أسماء الله الحسنى التي تُعلي من شأنه وتُظهر رحمته بعباده. العدل الإلهي ليس فقط نظامًا يُقيم به الله الميزان بين خلقه، بل هو أساس كل شيء في الكون، وبه تنتظم شؤون الحياة، وتُحفظ الحقوق، وتُرد المظالم. عدل الله مطلق لا تشوبه شائبة، ولا يتطرق إليه النقص أو الهوى، فهو العدل الذي لا يُظلم عنده أحد، ولا يُغفل عنه شيء مهما كان صغيرًا.

يتجلى عدل الله في كل مظاهر الوجود: في الخلق، وفي الأقدار، وفي التشريع، وفي الجزاء، وفي الحساب. وتتعدد أوجه عدل الله، بحيث تشمل الدنيا والآخرة، وتطال المؤمن والكافر، والإنسان والحيوان، وحتى الجماد، لأن عدل الله شامل لكل مخلوقاته.

عدل الله في الخلق والتكوين

خلق الله سبحانه وتعالى الكون بنظام دقيق ومحكم يُظهر عدله البالغ، حيث جعل لكل شيء وظيفة محددة، ولكل مخلوق قدرًا يناسبه:

• جعل الشمس والقمر في نظام كوني دقيق لا يختل، ولا يتقدم ولا يتأخر، كما قال تعالى: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ [يس: 40].

• خلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعل له العقل والإرادة والاختيار ليُحاسب بعدل على أفعاله.

• منح الكائنات الأخرى ما يلزمها للبقاء والتكيف مع بيئاتها، فكل كائن حي له من القدرات ما يناسب حياته.

هذا العدل الإلهي يتجلى في التوازن البيئي الذي يحكم العلاقات بين المخلوقات، فلو اختل هذا التوازن لفسدت الأرض وما عليها. كما أن توزيع الأرزاق والمنافع بين الناس هو أيضًا جزء من عدل الله في الخلق، فكل إنسان يأخذ نصيبه الذي يناسبه في علم الله وحكمته.

عدل الله في الابتلاءات والمصائب

من أعظم مظاهر عدل الله أن الابتلاءات التي تقع على الإنسان ليست عقابًا مطلقًا، بل هي لحِكمة يعلمها الله، وقد تكون لرفعة الدرجات أو لتكفير السيئات أو لتذكير العبد بالرجوع إلى الله.

الله لا يبتلي إنسانًا بما لا يطيق، وهذا قمة العدل، كما قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].

فالبلاء يُقسَّم على قدر الاستطاعة، ولا يقع جزافًا. كما أن الله يقدر الأجر على قدر الصبر والرضا، وهذا عدل مطلق يُظهر أن الله سبحانه لا يُضيع أجر من أحسن عملًا.

جدول: مقارنة بين مفهوم الابتلاء في العدل الإلهي ومفهوم العقاب المطلق

عدل الله في التشريع

التشريعات السماوية التي أنزلها الله عز وجل على عباده جاءت قائمة على العدل والمساواة بين الناس، حيث راعت الفروق الفردية، وقدرت الضرورات، ولم تفرض ما يُثقل على العباد دون حكمة.

• أباح الله الطيبات وحرّم الخبائث، تحقيقًا للعدل في مصلحة الإنسان وصحته.

• فرض العبادات بما يتناسب مع قدرات البشر، كالتدرج في الصيام والصلاة والزكاة.

• وضع الحدود والقصاص لحفظ الحقوق ومنع الظلم والفساد.

كل حكم من أحكام الشريعة الإسلامية جاء لتحقيق مصالح الناس ودفع المفاسد عنهم. ومن عدل الله في التشريع أنه لم يساوِ بين المختلفين ظلمًا، بل راعى الظروف كالإكراه، والجهل، والنسيان، وكلها تؤخذ في الاعتبار عند إنزال الأحكام الشرعية.

عدل الله في الحساب والجزاء

يوم القيامة هو يوم العدل المطلق الذي يُظهر فيه الله سبحانه وتعالى حكمته البالغة في محاسبة العباد. لا يُظلم أحد، ولا يُنقص من حسناته، ولا يُزاد على سيئاته، كما قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ [الأنبياء: 47].

من صور عدل الله في الحساب:

• إطلاع العبد على كتابه ليُقر بما فيه.

• شهادة الجوارح على الأعمال.

• عدم محاسبة الإنسان إلا على ما تعمّد فعله.

• مكافأة العمل الصالح بعشر أمثاله إلى سبعمائة ضعف، في حين أن السيئة تُجزى بمثلها فقط.

عدل الله يتجلى أيضًا في أن لكل إنسان فرصة للتوبة قبل الموت، ومن تاب تاب الله عليه مهما بلغت ذنوبه.

عدل الله مع الكفار والمنافقين

حتى مع من كفروا به، يتعامل الله سبحانه وتعالى بعدل تام، فمنهم من يُعجل له العقوبة في الدنيا، ومنهم من يُمهل حتى يأتي أجله، ولا يعاقب أحدًا على ذنب لم يرتكبه.

كما أن الله سبحانه لا يمنع عنهم أسباب الرزق والمعيشة، بل يعطيهم في الدنيا كجزء من عدله ورزقه العام لعباده، فلو كان الله يعامل الكافر بالحرمان المطلق لعاش العالم في فوضى وخلل بيئي واجتماعي.

عدل الله في توزيع الأرزاق

من أبرز صور عدل الله أن الأرزاق لا تُوزع بعشوائية، بل يُقدّرها الله بحسب حكمته وابتلائه لعباده. قد يُعطي الله شخصًا مالًا ويحجب عن آخر، لكن ذلك ليس ظلمًا، بل هو تقدير يناسب كل فرد وفق ما يصلحه وما هو خير له.

الله تعالى وزع الأرزاق ليختبر شكر الغني وصبر الفقير. كما أن الأرزاق ليست محصورة في المال فقط، بل تشمل الصحة، والعلم، والراحة النفسية، والسعادة، وغيرها من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى.

عدل الله في اختلاف الخلق

خلق الله الناس مختلفين في الأشكال، والألوان، والألسنة، والقدرات، وهذا من مظاهر عدله سبحانه، حيث جعل التنوع سببًا للتعارف والتكامل لا للتفاضل الباطل، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُم﴾ [الحجرات: 13].

فالله لا ينظر إلى أشكال الناس أو أنسابهم، بل إلى قلوبهم وأعمالهم. وهذا قمة العدل الإلهي الذي يُلغي كل اعتبارات التمييز العنصري أو الطبقي.

عدل الله في استجابة الدعاء

استجابة الدعاء من مظاهر عدل الله، حيث وعد سبحانه أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. لكن العدل الإلهي يتجلى في أن الإجابة تكون على الوجه الذي فيه مصلحة العبد، وليس دائمًا كما يطلبه هو. قد يُؤخر الله الإجابة لحكمة، أو يدّخرها للآخرة، أو يصرف عنه بها بلاءً أعظم.

هذا التقدير العادل يُظهر أن الله لا يُهمل دعاء عبده، بل يُعطيه ما هو خير له سواء في الدنيا أو الآخرة.

عدل الله في تعويض المظلومين

الله عز وجل لا يضيع حق مظلوم، بل يتكفل بنصرتهم ولو بعد حين. الدنيا قد تتأخر فيها نصرة المظلوم، لكن عدل الله يضمن أن حقه سيُرد، سواء في الدنيا أو يوم القيامة.

النصوص الكثيرة تدل على أن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يُفلتْهُ. كما أن دعوة المظلوم مستجابة لا ترد، وهذه من أعظم صور العدل الإلهي التي تُطمئن قلوب الناس أن الحقوق لا تضيع عند الله.

عدل الله في التعامل مع الأمم

الله سبحانه وتعالى لا يُهلك أمة إلا بعد إرسال الرسل وإنذارها وقيام الحجة عليها. كما أن الله لا يُعاقب جماعة بسبب ذنب فرد إلا إذا سكتت عنه أو قبلت به. هذا العدل يظهر في سنن الله في الأمم، حيث يُمهلها ويُعطيها فرصًا عديدة للتوبة والرجوع إليه.

الهلاك الجماعي في الأمم السابقة كان بعد أن طغوا وتجبروا وكذبوا الرسل، ولم يتبق فيهم من يصلح حالهم، فكان عدل الله أن يطهّر الأرض منهم.

عدل الله في حقوق الحيوانات والجمادات

العدل الإلهي لا يقتصر على الإنسان فقط، بل يمتد إلى حقوق الحيوانات التي نهى الله عن تعذيبها أو ظلمها. كما أن الشريعة الإسلامية جاءت بتشريعات تحمي الحيوانات من الجوع والعطش والتحميل فوق الطاقة.

بل إن الجمادات لها حق أيضًا، فقد ورد في الحديث أن جبل أحد كان يحب رسول الله ويُحبُّه، وهذا دليل على أن للجمادات تفاعلات تُقدّر عند الله.

الله يعاقب من يقطع شجرة ظل في الصحراء دون حاجة، ويُجازي من يسقي كلبًا عطشانًا. هذه الدقة في محاسبة الأفعال مهما بدت صغيرة تُظهر كمال عدل الله في الخلق.

عدل الله في الجزاء الفردي

لا يُحاسَبُ الإنسان على أفعال غيره، ولا يُؤخذ بجريرة شخص آخر. كل فرد مسئول عن عمله، وهذا من قمة العدل الإلهي الذي يلغي كل أنواع العقوبات الجماعية الجائرة.

الآية الكريمة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الأنعام: 164] تُعد قاعدة عدلية عظيمة، حيث لا يُحمل شخص ذنب غيره، وكل إنسان يُحاسب على ما كسبت يداه.

خاتمة

عدل الله تعالى شامل وكامل في جميع مظاهره، يتجلى في خلقه، وفي شرعه، وفي قضائه، وفي جزائه. لا يَظلم ربك أحدًا، ولا يُهمل حقًا، ولا يُقدم أحدًا بلا سبب، ولا يؤخر أحدًا بغير حكمة. عدل الله هو الأساس الذي تقوم عليه الحياة، وهو ما يطمئن القلوب أن الحق لا يضيع عند الله.

الله سبحانه هو العدل المطلق الذي لا يتطرق إليه هوى ولا يناله نقص، وكل ما يجري في هذا الكون يجري بحكمة وعدل منه. هذا العدل الإلهي هو الذي يجعل المؤمن مطمئنًا مهما اشتدت عليه المحن، ويجعل الظالم في خوف دائم من عدل الله الذي سيأخذ الحق منه عاجلًا أو آجلًا.

المراجع

• تفسير ابن كثير.

• مجموع فتاوى ابن تيمية.