كيف تكون شخصاً مبادراً بدلاً من إظهار ردات فعل؟

الفرق بين الإنسان المبادر والذي يتصرف انطلاقاً من قراراته وقيمه، وبين الإنسان الذي يعيش بردود أفعال، هو كالفرق بين قائد المركبة وبين من يُقاد دون إرادة واضحة. فالمبادرة ليست مجرد سلوك إيجابي، بل هي نمط حياة، وهي المهارة التي تصنع الفارق الحقيقي بين من يصنع حياته ومن تفرض عليه الحياة مساراتها. التحول من حالة التلقي والانفعال إلى حالة الفعل والتأثير يتطلب فهماً عميقاً لذات الإنسان وآليات سلوكه، ويحتاج إلى تدريب طويل الأمد على مستوى التفكير والسلوك والعلاقات.

المبادرة كصفة شخصية

المبادرة ليست ميزة فطرية يولد بها البعض دون غيرهم، بل هي نتاج تربية ذهنية ووجدانية معينة، تؤمن أن الإنسان مسؤول عن حياته وأنه ليس ضحية للظروف أو الأشخاص أو الحظ. فالمبادر يرى أن التغيير يبدأ من داخله، ويعمل باستمرار على تحسين ذاته والبحث عن الفرص وتجاوز العوائق. في المقابل، من يعيش بردود فعل غالباً ما يكون موجهاً بما يحدث حوله، فيتأثر بسهولة، ويتعطل بفعل ما يراه “خارجه” دون أن يبذل جهداً لتغيير ما “في داخله”.

الفرق الجوهري بين المبادرة ورد الفعل

الردود الآنية عادة ما تكون غير مدروسة، تتأثر بالعواطف والمواقف العابرة، وقد تكون دفاعية، غاضبة، أو حتى سلبية. بينما تنطلق المبادرة من إدراك عميق للموقف، ورؤية واضحة للهدف، وقدرة على التحكم بالمشاعر وتوجيهها بما يخدم تحقيق نتائج إيجابية. فالمبادر لا ينتظر أن يُطلب منه العمل، بل يبادر إلى الفعل لأنه يرى مسؤولية ذاته في تحسين الأمور، ويملك الدافعية الداخلية الكافية التي تجعله يتحرك قبل أن يُدفع.

كيف تتكون شخصية المبادر؟

تتشكل شخصية المبادر عبر تراكم عدد من العادات والسلوكيات والمعارف النفسية والاجتماعية، وأبرزها:

1. الإدراك الذاتي والوعي الداخلي

المبادر يعرف نفسه جيداً. يفهم نقاط قوته وضعفه، ويعي حالته النفسية، ويُراقب أفكاره ومشاعره بدقة. وهذا الوعي هو ما يمنحه القدرة على الاستجابة بدلاً من الانفعال، فهو لا يسمح لمشاعره أو لمحيطه أن يتحكم به، بل يستخدمهم أدوات لتوجيه قراراته بعقلانية.

2. التحمل المسؤولية الشخصية

يتحمل الشخص المبادر مسؤولية أفعاله وأفكاره ومشاعره. لا يلقي اللوم على الظروف، ولا ينتظر تحرك الآخرين ليبدأ هو بالتحرك. إنه يرى نفسه فاعلاً في كل موقف، ويبحث عن سُبل التأثير والتغيير حتى في الأوضاع التي يظن الآخرون أنها مغلقة أو مستحيلة.

3. تحديد الأهداف والعمل المنظم

الإنسان المبادر لا يعمل من منطلق العشوائية، بل يمتلك أهدافاً واضحة يسعى لتحقيقها. هو لا يتفاعل فقط مع ما يحدث، بل يوجه الأحداث لتخدم تطلعاته. لذا فإن إدارة الوقت، وتحديد الأولويات، ووضع خطط واقعية تُعد أدوات أساسية في سلوكياته اليومية.

4. ضبط النفس والانفعالات

من أهم خصائص المبادر أنه لا يندفع وراء مشاعر الغضب أو الإحباط أو الخوف. بل يتحكم بها ويوجهها، ويفهم أن الانفعال قد يكون مضللاً، وأن الحكمة تكمن في القدرة على التصرف بثبات واتزان حتى وسط الأزمات.

5. التركيز على دائرة التأثير

في كتاب “العادة الأولى” من العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، يوضح ستيفن كوفي أن المبادرين يركزون على دائرة التأثير الخاصة بهم بدلاً من دائرة الاهتمام. أي أنهم يوجهون طاقتهم إلى الأمور التي يستطيعون التحكم بها، بدلاً من إهدارها على ما لا يمكن تغييره.

6. التغذية الفكرية الدائمة

المبادر لا يتوقف عن التعلم، ولا ينتظر الآخرين ليخبروه بما يجب عليه فعله. بل يقرأ، يستمع، يبحث، ويطور نفسه باستمرار. فالمعرفة بالنسبة له ليست ترفاً، بل ضرورة عملية لصقل الذات وزيادة القدرة على المبادرة.

التحول من ردات الفعل إلى الفعل الحقيقي

الانتقال من نمط الحياة المبني على ردات الفعل إلى أسلوب حياة قائم على المبادرة يتطلب التزاماً طويل الأمد، ويتحقق عبر خطوات عملية ومُجربة، منها:

الخطوة الأولى: إعادة برمجة المعتقدات الذاتية

كثير من الناس ينشأون في بيئات تُغذي فيهم الشعور بالعجز أو الخضوع للظروف. لذلك فإن أول خطوة حقيقية تبدأ من الداخل، من تغيير النظرة إلى الذات، والإيمان بأن الإنسان قادر على اتخاذ القرار، وأن له حرية الاختيار، وأنه ليس أسير ماضيه أو محيطه.

الخطوة الثانية: مراقبة الذات عند المواقف المفاجئة

في كل موقف يومي يمكن للفرد أن يسأل نفسه: هل أنا أستجيب الآن بناءً على قيم ومبادئ؟ أم أني أنفعل بشكل تلقائي؟ هذه المراقبة الذاتية الدائمة تُشكل الوعي الضروري الذي يسبق المبادرة.

الخطوة الثالثة: تطوير مهارات التواصل والتأثير

من مظاهر المبادرة أن يكون الإنسان قادراً على طرح أفكاره، الدفاع عن رأيه، إقناع الآخرين، وقيادة المواقف. ولتحقيق ذلك، يحتاج إلى تنمية مهارات الحوار، الاستماع الفعّال، التعبير عن الذات، وفهم أنماط الشخصيات المختلفة.

الخطوة الرابعة: بناء خطط حياة واقعية ومرنة

المبادرة دون تخطيط تتحول إلى عشوائية. لذلك لا بد من وجود أهداف واضحة سواء على المدى القريب أو البعيد، مع وجود خطط قابلة للتنفيذ تتسم بالمرونة لمواجهة التحديات غير المتوقعة.

الخطوة الخامسة: التدريب على التأجيل الإيجابي للردود

يحتاج الإنسان ليصبح مبادراً أن يتعلم التريث قبل الرد أو اتخاذ القرار. فغالباً ما تؤدي ردات الفعل المتسرعة إلى نتائج غير مرغوبة. لذلك فإن إعطاء النفس مهلة للتفكير يُعد أداة مهمة للمبادرة الواعية.

جدول: مقارنة بين الشخص المبادر والشخص التفاعلي

لماذا المبادرة ضرورة في هذا العصر؟

في عالم يتغير بسرعة هائلة، لم تعد ردود الأفعال كافية لمواكبة ما يحدث. المبادرة باتت شرطاً للنجاح المهني، والاستقرار النفسي، والتقدم الذاتي. من يمتلك هذه الصفة يسبق غيره بخطوات لأنه لا ينتظر التعليمات ولا يتوقف أمام العقبات، بل يبحث عن الحلول ويصنع الفرص. كما أن سوق العمل اليوم لا يبحث عن الأيدي المنفذة فقط، بل عن العقول المبادرة التي تضيف وتبتكر.

في الخلاصة

أن تكون مبادراً يعني أن تتحكم في حياتك، أن تقود ذاتك نحو أهدافك، وأن لا تترك مصيرك رهينة للظروف والأشخاص. إنها مهارة تتطلب وعياً، تدريباً، وانضباطاً داخلياً عميقاً. وما أن تتحول المبادرة إلى عادة حياتية، حتى تبدأ النتائج المذهلة بالظهور: في علاقاتك، في عملك، وفي رؤيتك لذاتك.

المراجع:

1. Covey, Stephen R. The 7 Habits of Highly Effective People. Free Press, 1989.

2. Duhigg, Charles. The Power of Habit. Random House, 2012.