ماذا يحدث لمواقعك الاجتماعية بعد وفاتك؟ دراسة موسعة حول المصير الرقمي بعد الموت

في ظل التحولات الجذرية التي يشهدها العالم الرقمي، أصبحت الهويات الإلكترونية تشكل امتدادًا حقيقيًا لحياة الأفراد، حيث تتضمن حسابات في وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيك توك، لينكد إن، وسناب شات، إلى جانب الحسابات البريدية، السحابات التخزينية، المدونات، المحافظ الرقمية، والمراسلات الخاصة. هذه البصمة الرقمية التي تتسع يومًا بعد يوم تثير تساؤلات قانونية وأخلاقية واجتماعية عن مصيرها بعد وفاة صاحبها. لم يعد الأمر مجرد فضول نظري، بل بات ضرورة عملية ملحة، إذ تتحول هذه الحسابات بعد الوفاة إلى مزيج معقد من الذكريات والبيانات الخاصة والأصول الرقمية التي قد تحمل قيمة مالية أو معنوية أو قانونية.

الهوية الرقمية: مفهوم معقد يتجاوز الحياة المادية

الهوية الرقمية لا تقتصر على الاسم والصورة فقط، بل تشمل المحتوى الذي ينشره الفرد، قائمة الأصدقاء والمتابعين، التفاعلات، الرسائل الخاصة، البيانات الشخصية، سجل البحث، تاريخ التصفح، بالإضافة إلى كافة الأنشطة التي تنفذ باستخدام الحساب. ومع تزايد الوقت الذي يقضيه الأفراد في الحياة الرقمية، تصبح هذه الهوية أكثر عمقًا وتركيبًا، بل وتشكل جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية للعائلة والأصدقاء والمجتمع.

سياسات المنصات الاجتماعية بشأن حسابات المتوفين

مع تطور وعي المستخدمين والسلطات التشريعية، بدأت شركات التكنولوجيا في تطوير سياسات للتعامل مع الحسابات بعد وفاة صاحبها، إلا أن هذه السياسات تختلف من منصة إلى أخرى، وقد لا تكون واضحة أو سهلة التطبيق.

1. فيسبوك (Facebook)

فيسبوك، باعتباره أحد أضخم المنصات الاجتماعية، كان من أوائل المواقع التي وضعت آلية واضحة للتعامل مع حسابات المستخدمين بعد وفاتهم. تتضمن السياسات خيارين أساسيين:

• تحويل الحساب إلى “حساب تذكاري” (Memorialized Account): يظل الحساب موجودًا ولكن لا يمكن الدخول إليه أو التحكم به إلا من قبل “جهة موصى بها” (Legacy Contact) يحددها المستخدم مسبقًا. يظهر الحساب بعبارة “في ذكرى…”، وتبقى المنشورات والصور والتعليقات كما هي، مع إيقاف التنبيهات والتوصيات.

• طلب حذف الحساب نهائيًا: يمكن للمستخدم، قبل وفاته، أن يحدد في الإعدادات أن يتم حذف الحساب تلقائيًا بعد وفاته. كما يمكن لذويه تقديم طلب حذف بشرط تقديم إثبات الوفاة.

2. إنستغرام (Instagram)

بما أن إنستغرام مملوك لفيسبوك (Meta)، فإنه يعتمد نفس نظام “الحساب التذكاري”، حيث يتم الحفاظ على صور ومنشورات المستخدم بعد وفاته دون إمكانية التعديل أو النشر. كما يمكن طلب حذف الحساب نهائيًا من خلال تقديم شهادة وفاة.

3. تويتر (Twitter/X)

تويتر لا يتيح إمكانية تحويل الحساب إلى تذكاري، لكنه يسمح لأحد أقارب المتوفى أو لممثل قانوني بطلب حذف الحساب نهائيًا، بشرط تقديم مستندات تثبت الوفاة وهوية الشخص الطالب. لا يُسمح بالوصول إلى محتوى الحساب أو إدارته.

4. لينكد إن (LinkedIn)

لينكد إن يقدم نموذجًا لتقديم بلاغ عن وفاة أحد المستخدمين، حيث يمكن حذف الحساب نهائيًا بعد التحقق من بيانات الوفاة. نظرًا لطبيعة المنصة المهنية، فإن هذا الإجراء يحظى بأهمية خاصة لتفادي استمرار الظهور في نتائج البحث المهنية أو التوصيات.

5. تيك توك (TikTok)

تيك توك لا يوفر حتى الآن نظامًا متطورًا للتعامل مع حسابات المتوفين. ومع ذلك، يمكن تقديم طلب لإزالة الحساب من خلال التواصل مع الدعم الفني وتقديم إثبات الوفاة. ويُعد هذا النقص في المعالجة القانونية والخصوصية من أبرز التحديات التي تواجه مستخدمي هذه المنصة.

6. سناب شات (Snapchat)

سناب شات كذلك لا يوفر خيارًا لحفظ الحساب كتذكار، ويكتفي بإجراءات الحذف بناءً على طلب من أحد أفراد العائلة. يتطلب ذلك تقديم مستندات رسمية تؤكد الوفاة وبيانات الحساب.

الإرث الرقمي والوصايا التكنولوجية

مع تعاظم دور البيانات الرقمية، بات من الضروري التفكير في الإرث الرقمي ضمن إطار الوصايا القانونية. ينصح المختصون بأن يدرج المستخدم في وصيته تعليمات واضحة تتعلق بكافة حساباته الرقمية، بما في ذلك:

• تحديد من يحق له الوصول إلى الحسابات.

• طلب حذف أو إبقاء الحسابات بعد الوفاة.

• تنظيم التصرف بالمحتوى، خصوصًا في الحسابات التي تحتوي على بيانات شخصية، رسائل خاصة، أو محتوى قد يحمل قيمة معنوية أو فنية.

وفي بعض البلدان مثل الولايات المتحدة، ظهرت قوانين مثل “قانون الوصول إلى الأصول الرقمية للمتوفين” (Revised Uniform Fiduciary Access to Digital Assets Act – RUFADAA)، والذي يحدد إطارًا قانونيًا يتيح للورثة أو الممثل القانوني التعامل مع الأصول الرقمية بموجب وصية.

الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية

لا يقتصر تأثير حسابات المتوفين على الجانب التقني والقانوني، بل يتعداه إلى أبعاد نفسية وأخلاقية. فوجود حساب لشخص متوفى قد يشكل عبئًا نفسيًا على ذويه، أو قد يكون مصدر عزاء وتواصل وجداني مع ذكراه. كما أن بقاء الحساب دون رقابة قد يسبب مشكلات مثل:

• تعرض الحساب للاختراق أو الاستغلال.

• إعادة مشاركة محتوى قديم بشكل غير لائق.

• استغلال صور أو بيانات في سياقات تجارية أو ضارة.

من جهة أخرى، يرى البعض أن الحسابات التذكارية تمثل أرشيفًا رقميًا ثمينًا يمكن أن يعكس تطور حياة الشخص، وأفكاره، وعلاقاته، وبالتالي يجب الحفاظ عليها بعناية وإدارتها باحترام كبير.

جدول توضيحي لسياسات المنصات الاجتماعية بعد الوفاة

التطبيقات السحابية والبريد الإلكتروني

الأمر لا يقتصر على شبكات التواصل الاجتماعي فحسب، فالحسابات المرتبطة بالبريد الإلكتروني وخدمات التخزين السحابي مثل Gmail، iCloud، OneDrive، Dropbox وغيرها، تشكل نقطة محورية في البنية الرقمية للمتوفى. الوصول إلى هذه الحسابات بعد الوفاة يخضع لشروط صارمة جدًا، تتطلب في بعض الحالات أوامر قضائية أو توكيلات قانونية معتمدة.

غوغل (Google)

تقدم غوغل خدمة تُعرف باسم “مدير الحساب غير النشط” (Inactive Account Manager)، تتيح للمستخدم تحديد ما يحدث لحساباته (بما فيها Gmail، Drive، Photos…) بعد فترة من عدم النشاط. يمكن للمستخدم أن:

• يختار حذف الحساب تلقائيًا.

• يحدد أشخاصًا يحق لهم استلام بيانات الحساب.

• يحدد فترة inactivity تبدأ بعدها الإجراءات (3 أشهر، 6 أشهر، إلخ).

آبل (Apple)

شركة آبل توفر آلية باسم “جهة الاتصال الموروثة” (Legacy Contact)، وهي خدمة تتيح للمستخدم تحديد شخص يمكنه الوصول إلى البيانات في حالة الوفاة، بشرط وجود مفتاح وصول رقمي وشهادة وفاة. دون ذلك، يصعب للغاية اختراق نظام الحماية الذي تفرضه آبل.

العملات الرقمية والمحافظ المشفرة

تشكل العملات الرقمية تحديًا من نوع خاص في مسألة الإرث الرقمي، إذ تعتمد على أنظمة تشفير متقدمة لا تسمح باسترجاع الأموال أو الوصول إليها في حال فقدان المفتاح الخاص. بدون تعليمات واضحة وتوثيق جيد، قد تضيع الأصول الرقمية بشكل نهائي، مما يشكل خسارة مالية جسيمة.

لذلك، يُوصى بما يلي:

• الاحتفاظ بمفاتيح المحافظ في أماكن آمنة مثل خزنة ورقية أو رقمية.

• إدراج تعليمات مفصلة في الوصية بشأن كيفية الوصول للأصول الرقمية.

• الاستعانة بمحامٍ مختص في الأصول الرقمية والقوانين المرتبطة بها.

التحديات القانونية عبر الحدود

في حال توفي شخص يملك حسابات رقمية في منصات أمريكية أو أوروبية بينما يقيم في دولة شرق أوسطية أو أفريقية، قد يواجه الورثة صعوبات في المطابقة بين قوانين الدولة الأم وسياسات المنصات التي تخضع لقوانين أجنبية. هذه الفجوة القانونية تستدعي التعاون بين الدول والهيئات الدولية لإقرار قوانين موحدة أو على الأقل بروتوكولات للتعامل مع الوفيات الرقمية.

توصيات عملية لحماية الإرث الرقمي

1. إعداد وصية رقمية مكتوبة: تتضمن كلمات السر، التعليمات، الجهات المرخص لها.

2. استخدام مديري الحسابات غير النشطة: مثل خدمات Google وApple.

3. اختيار “جهة موصى بها” في الحسابات الاجتماعية: إن وُجدت خاصية مثل في فيسبوك.

4. حفظ الأصول الرقمية والمفاتيح المشفرة في أماكن آمنة.

5. تحديث التوصيات والبيانات بانتظام.

6. التنسيق مع محامٍ مختص بالقانون الرقمي.

الخلاصة

البصمة الرقمية للإنسان لم تعد تختفي بوفاته، بل قد تستمر وتؤثر في الآخرين بعد رحيله. من الضروري أن نُعامل بياناتنا الرقمية كما نُعامل ممتلكاتنا المادية، وأن نُهيئ لها إطارًا قانونيًا وأخلاقيًا يضمن حسن إدارتها بعد وفاتنا. سواء كانت هذه البيانات عبارة عن صور وذكريات، أو أصول مالية رقمية، أو حتى تفاعلات بسيطة على منصات اجتماعية، فإن احترامها بعد الموت يمثل جزءًا من احترام كرامة الإنسان وحقه في أن يُحفظ إرثه، حتى في العالم الافتراضي.

المراجع:

1. Facebook Help Center – Memorialization.

2. Revised Uniform Fiduciary Access to Digital Assets Act (RUFADAA), Uniform Law Commission.