إيجابيات العهدة العمرية

إيجابيات العهدة العمرية

تُعدّ العهدة العمرية واحدة من أهم الوثائق السياسية والتاريخية التي جسّدت مبادئ العدالة والتسامح والضمانات المدنية في صدر الإسلام، وهي وثيقة كتبها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحت سلمًا في العام الخامس عشر للهجرة (636م). وقد تضمنت العهدة مجموعة من البنود التي أمنت حقوق غير المسلمين وخاصة النصارى من سكان المدينة، وضمنت لهم حرية المعتقد، وحماية دور العبادة، والأمان على النفس والمال، ضمن إطار من السيادة الإسلامية.

هذا النموذج التاريخي النادر في التسامح والتعايش بين الأديان في وقت كانت فيه الحروب الصليبية والعنصرية الدينية تملأ صفحات التاريخ، يكشف عن جوانب إيجابية بالغة التأثير لا تقتصر على زمنها بل تمتد برسائلها الأخلاقية والإنسانية حتى العصر الحديث.

العدالة الدينية في بنود العهدة

من أبرز الإيجابيات التي تجلت في العهدة العمرية هي العدالة الدينية، حيث نصّت الوثيقة على أن لأهل إيلياء “أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، سقيمها وبريئها، وسائر ملتها”. هذه العبارة تُظهر بوضوح التزام الخليفة المسلم بحماية العقيدة الدينية للأقليات، وعدم المساس بحقوقهم العقائدية.

كان هذا الفعل استثنائيًا في زمن كانت فيه الحروب الدينية تبرر المجازر وتدمير مقدسات الآخرين، وقد جسّد بذلك عمر بن الخطاب المبادئ القرآنية في قوله تعالى:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وأيضًا ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6].

الحفاظ على النسيج الاجتماعي والتعددية الثقافية

من الإيجابيات العميقة في هذه العهدة أنها أسست لثقافة قبول الآخر، وحفظت النسيج الاجتماعي للقدس، الذي كان يتكون من طوائف وعرقيات متعددة. إذ لم تُفرض الهوية الإسلامية بالقوة، ولم تُجبر الأقليات على الانصهار أو التهجير، بل ضمنت استمرار الحياة المشتركة، وهو ما ساعد على استقرار المدينة بعد الفتح.

هذا السلوك السياسي الحكيم ساعد على ازدهار الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وشكّل بيئة منفتحة على التنوع الثقافي والمعرفي. فالوجود المسيحي استمر دون اضطهاد، والكنائس بقيت عامرة، والحياة الدينية المسيحية ظلت حرة تمارس طقوسها.

نموذج عالمي في احترام المقدسات

جاءت العهدة العمرية لتؤكد على قداسة دور العبادة واحترام الخصوصيات العقائدية. فقد رفض الخليفة عمر بن الخطاب أن يصلي داخل كنيسة القيامة عندما حان وقت الصلاة، رغم أنه كان يستطيع شرعًا ذلك، لكنه قال قولته المشهورة:

“لو صليت داخل الكنيسة لاتخذها المسلمون مسجدًا من بعدي، فإني أريد أن تبقى كنيسة للمسيحيين.”

هذا التصرف الذي يحمل أسمى معاني الاحترام والوعي السياسي والروحي، جعل من العهدة العمرية مرجعًا في العلاقات الدينية، وأكسب المسلمين احترام الطوائف الأخرى في القدس، ورسّخ صورة مشرقة للإسلام لا تزال تُستشهد بها إلى اليوم في حوارات الأديان ومؤتمرات السلام.

ترسيخ مبادئ الدولة المدنية في صدر الإسلام

الوثيقة لا تكتفي بضمان الحقوق الدينية، بل تتطرق أيضًا إلى الأمان الشخصي والمالي، وهذا ما يشير إلى أن النموذج السياسي الإسلامي في عهد الراشدين لم يكن دينيًا إقصائيًا، بل مدنيًا يُؤمّن حقوق جميع السكان تحت مظلة القانون.

نصت العهدة العمرية على:

“أن لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم.”

هذا النوع من التعاقد السياسي بين الدولة الإسلامية والأقليات، يقدم تصورًا راقيًا في العلاقات الدولية والسياسية، إذ يبرز التعايش كمبدأ دستوري ملزم، وليس كمنحة مؤقتة. كما أن هذا التعايش لم يكن مقيدًا بزمن الخليفة فقط، بل امتد بعده كعهد واجب التنفيذ على من بعده.

ضمان الاستقرار السياسي والإداري

من الإيجابيات المهمة للعهدة العمرية أنها حققت الاستقرار الفوري بعد فتح القدس. فبدلاً من دخول الجيوش بالدماء، دخل المسلمون القدس باتفاق مكتوب، وتم الانتقال من الحكم البيزنطي إلى الإسلامي دون أعمال عنف أو مقاومة واسعة. وهذا الاستقرار ساعد على تنظيم الإدارة والضرائب وحفظ الأمن، وأسس لحكم إسلامي عادل دام قرونًا.

وتُظهر الوثيقة في هذا الإطار الحس السياسي العميق لعمر بن الخطاب، الذي أدرك أن تأمين النفوس والأموال والمعتقدات يُعد من الركائز الأساسية في بناء أي دولة ناجحة، وهو ما انعكس لاحقًا في ازدهار القدس كمدينة حضارية.

إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم

في كثير من الأحيان، كانت العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية في العصور القديمة قائمة على التسلط والإجبار، لكن عمر بن الخطاب بنى نموذجًا مختلفًا، أساسه العقد الاجتماعي بين المسلمين وغيرهم. فالعهدة كانت بمثابة وثيقة عقدية تضمن فيها الدولة الإسلامية أمن أهل إيلياء مقابل الجزية، وهي التزام مالي مقابل الحماية، لا مقابل تغيير الدين أو الولاء.

بذلك أصبحت العلاقة أكثر وضوحًا وعدالة، حيث للدولة حق الطاعة والتنظيم، وللمواطن حق الأمان والحرية، وهو شكل متقدم من العقود السياسية الناضجة.

التميّز الأخلاقي في الفتح الإسلامي

العهدة العمرية تمثل شاهدًا تاريخيًا على سمو الأخلاق الإسلامية في التعامل مع “الآخر” وقت النصر. ففي حين كان الشائع وقتها أن الحروب تنتهي بالنهب والسبي وهدم المدن، اختار المسلمون بقيادة عمر طريق السلم، والاحترام، وبناء الثقة مع الأهالي.

ولم يسجل التاريخ أي انتهاكات ضد سكان القدس بعد الفتح، وهو ما يُعد استثناءً مذهلًا في تاريخ الفتوحات. هذه الأخلاق الرفيعة جعلت كثيرًا من المسيحيين في الشام يفضلون الحكم الإسلامي على الحكم البيزنطي السابق، لما لمسوه من عدل ومساواة.

جدول يوضح أبرز بنود العهدة العمرية وإيجابياتها

التأثير طويل الأمد للعهدة في الفكر السياسي الإسلامي

استُشهد بالعهدة العمرية في عصور لاحقة كنموذج للعدل الإسلامي، خاصة في الأندلس والعصور العباسية والفاطمية، حيث حافظت الدول الإسلامية في الغالب على هذه المبادئ. بل أن بعض الباحثين المعاصرين يرون أن العهدة تصلح كأساس لمواثيق حقوق الإنسان في الدولة الإسلامية الحديثة.

وقد جرى إدراج العهدة العمرية في بعض الدراسات المعاصرة ضمن الوثائق المؤسِسة لمبدأ “المواطنة” في الدولة الإسلامية، وهي سابقة حتى على المواثيق الأوروبية التي جاءت بعد قرون.

الرسائل الرمزية في العهدة

إضافةً إلى مضامينها القانونية والسياسية، تحمل العهدة رسائل رمزية عميقة:

• الإسلام ليس دين الإكراه بل دين الرحمة والعدل.

• الفتوحات لم تكن للإبادة أو الاستغلال، بل للتغيير الإيجابي وبسط العدالة.

• احترام الآخر ليس ضعفًا بل منتهى القوة.

• الحقوق مكفولة للجميع تحت مظلة الدولة الإسلامية دون تمييز على أساس الدين.

خلاصة القيمة الحضارية للعهدة العمرية

العهدة العمرية وثيقة تؤكد على الريادة الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، والتسامح الديني، والتعايش الحضاري. لم تكن مجرد اتفاق سياسي، بل كانت إعلانًا واضحًا لرؤية الإسلام في إدارة الدولة متعددة الأديان والثقافات. وقد جسدت معاني العدل، والرحمة، واحترام الآخر، وتركت أثرًا ممتدًا في التاريخ السياسي والحضاري للعالم الإسلامي، بل أصبحت نموذجًا يُحتذى به في التعامل مع الأقليات الدينية.

وقد اعترف كثير من المفكرين والباحثين الغربيين بقيمتها العالية، ومنهم المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي الذي أشار إلى تفوّق النموذج الإسلامي في إدارة التنوع على النماذج الأوروبية في العصور الوسطى، مؤكدًا أن العهدة العمرية تُمثل وثيقة ذات بعد إنساني فريد.

المراجع:

1. د. علي الصلابي، الدولة الأموية، عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، دار المعرفة.

2. د. راغب السرجاني، قصة القدس، موقع قصة الإسلام.