قصائد البحر البسيط الكلاسيكية

قصائد على البحر البسيط: إيقاع العذوبة ورحابة البيان في الشعر العربي

يُعدّ البحر البسيط أحد أبرز بحور الشعر العربي وأشدها استعمالاً على امتداد العصور، منذ الجاهلية وحتى الشعر الحديث. يتميز البحر البسيط بخفته الإيقاعية واتساع مجاله التعبيري، ما جعله مفضلاً لدى كبار الشعراء في معالجة أغراض شتى، من الفخر والرثاء إلى الغزل والوصف والحكمة. يجمع البحر البسيط بين جمال الإيقاع وسلاسة التفعيلة، فهو بحرٌ معتدل يسمح للشاعر ببسط المعاني وتمدّد الصور الشعرية، وقد عُرف بقدرته على احتضان التعابير الطويلة والقصائد ذات النفس الملحمي.

هذا المقال يتناول البحر البسيط من جوانب متعددة، بدءاً من بنيته الإيقاعية وأثره الجمالي، مروراً باستخدامه في العصور المختلفة، وصولاً إلى تحليل نماذج مختارة من أشهر القصائد التي كُتبت عليه.

البنية الإيقاعية للبحر البسيط

يتكون البحر البسيط من التفعيلة التالية:

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن (في الشطر الأول)

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن (في الشطر الثاني)

وقد يُدخَل عليه بعض الزحافات والعلل بحسب مقتضى الضرورة الشعرية، مما يعطيه مرونة كبيرة في الصياغة. ومن أبرز الزحافات التي تطرأ على تفعيلاته: حذف الحرف الأخير، أو التسكين، أو التدوير بين الكلمات، وهي أساليب تُستعمل دون الإخلال بإيقاع البحر أو موسيقاه الداخلية.

هذه البنية تسمح بمدّ النفس الشعري دون إرباك القارئ أو المستمع، وهو ما جعل البحر البسيط يُعرف بـ “سهل الممتنع”، إذ يسهل على الأذن استيعابه رغم تعقيداته التركيبية أحياناً.

الاستخدام التاريخي للبحر البسيط

ظهر البحر البسيط في العصور الأولى من الشعر العربي، وبلغ أوج انتشاره في العصرين العباسي والأندلسي، عندما برع الشعراء في استعماله للتعبير عن تجاربهم المختلفة. وقد استخدم في كل من القصائد الطوال والقصائد القصيرة (المقطوعات)، وامتاز بمرونته وقدرته على استيعاب الصور البلاغية المركّبة والأساليب النحوية المتنوعة.

في العصر الجاهلي، استُعمل البحر البسيط في قصائد تتسم بالقوة والجزالة، مثل تلك التي نظمها النابغة الذبياني، في حين استخدم في العصر العباسي لغايات فلسفية، وعاطفية، وروحانية، كما عند أبي تمام والمتنبي. وفي الشعر الأندلسي، كان حاضراً في الموشحات والأزجال، مما يشهد على قابليته للتكيّف مع التنويعات الفنية والإيقاعية.

خصائص البحر البسيط الجمالية

يتميّز البحر البسيط بخصائص فنية عدة جعلت له حضوراً طاغياً في الشعر العربي، من بينها:

1. الانسيابية الموسيقية: الإيقاع المتوازن لتفعيلاته يمنح القصيدة طابعاً لحنيّاً جذّاباً.

2. المرونة النحوية: تسمح بنية البحر باستخدام تراكيب لغوية مركبة دون الإخلال بالبناء العروضي.

3. الطول النفَسي: يُمكّن الشاعر من تطوير فكرته على امتداد القصيدة دون تعقيد.

4. التناسب مع مختلف الأغراض الشعرية: من المدح والفخر، إلى الغزل والرثاء، إلى الحكمة والتصوف.

أغراض الشعر على البحر البسيط

الغزل

يُعدّ الغزل من أكثر الأغراض التي شُغلت بالبحر البسيط، لما يوفّره من قدرة على الاسترسال في الوصف والرقة في التعبير. من أشهر الأمثلة ما قاله مجنون ليلى:

أمرُّ على الديارِ ديارِ ليلى

أُقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

وما حبُّ الديارِ شغفنَ قلبي

ولكن حبُّ من سكنَ الديارا

فالقصيدة تُظهر كيف أن البحر البسيط يعزز من رومانسية المعنى عبر إيقاعه السلس.

المدح والفخر

كذلك استُخدم البحر البسيط بكثرة في المديح والفخر، إذ يسمح ببسط صفات الممدوح أو مفاخر القبيلة. يقول المتنبي:

إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ

فطَعنٌ في عُلى الهاماتِ يومٌ

وأقدامٌ على هامِ الكُلومِ

هنا، تتضح ملاءمة البحر البسيط لتصوير العزيمة والشموخ.

الرثاء

في الرثاء أيضاً، وجد الشعراء في البحر البسيط مجالاً فسيحاً للتعبير عن الحزن والفقد، كما في رثاء الخنساء لأخيها صخر:

أعينِيَّ جودا ولا تجمدا

ألا تبكيانِ لصخرِ الندى؟

ألا تبكيانِ الجوادَ الجميل

ألا تبكيانِ الفتى السيدا؟

هذه الأبيات تعبّر عن اللوعة والانكسار، وموسيقاها الحزينة جزء من قوتها العاطفية.

أشهر القصائد على البحر البسيط وتحليلها

قصيدة النابغة الذبياني في الاعتذار للنعمان

تُعدّ من أقدم القصائد التي كُتبت على البحر البسيط. يقول:

يا دارَ مَيّة بالعَلياءِ فالسَنَدِ

أقوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ

وقفتُ فيها أُصلي التربَ مُحتسباً

أقضي الدموعَ عن الجفنِ المُقَتَدِ

هذه الأبيات تتسم بجمالية لغوية عالية، ويعكس البحر البسيط هنا امتزاج المشاعر بين الحزن والحنين والرجاء.

قصيدة أبي تمام في فتح عمورية

واحدة من أبرز القصائد الحماسية التي ظهرت في العصر العباسي. يقول:

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ

في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ

بيضُ الصفائحِ لا سودُ الصحائفِ في

متونِهنّ جلاءُ الشكِّ والريبِ

تُبرز هذه الأبيات كيف أن البحر البسيط يمكن أن يُضفي جمالية ملحمية على الخطاب الشعري.

مقارنة بين استخدام البحر البسيط في العصور المختلفة

دور البحر البسيط في تجديد الشعر العربي

مع بروز تيارات التجديد في الشعر الحديث، خاصة في النصف الأول من القرن العشرين، بقي البحر البسيط حاضراً رغم الانفتاح على الأوزان الجديدة والتفعيلة. اعتمده شعراء المهجر، وشعراء مدرسة الديوان، وشعراء الإحياء، بل ووجدوا فيه أداة مناسبة للتعبير عن الذات والوجدان، لما يمتاز به من اتساع وقدرة على التلوين اللفظي.

وقد استثمر الشعراء الجدد هذا البحر في طرح قضايا اجتماعية وسياسية، بصياغات متقدمة تزاوج بين العمق والمباشرة، فصار البحر البسيط جسراً بين القديم والحديث، بين المحافظة والتجديد.

خاتمة فكرية

البحر البسيط لم يكن مجرّد إيقاع موسيقي في عروض الشعر العربي، بل شكل حاضنة جمالية وبلاغية لتاريخ طويل من التجربة الشعورية العربية. لقد احتضن الغزل والفخر والحزن والحكمة، وشهد على تحوّلات الذوق الأدبي من الصحراء إلى المدن، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الذات إلى الهمّ العام. وبفضل مرونته ورشاقته، ظلّ هذا البحر حياً ومتجدداً في الوعي الشعري العربي حتى اليوم.

المصادر والمراجع:

1. الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العروض، تحقيق: د. شوقي ضيف، دار المعارف.

2. شوقي ضيف، فنون الشعر العربي، دار المعارف، القاهرة.