قصائد المتنبي في مدح الرسول ﷺ: قراءة أدبية وتاريخية معمقة

يُعد أبو الطيب المتنبي أحد أعظم شعراء العرب في العصر العباسي، وواحدًا من أكثرهم تأثيرًا وعبقرية في الشعر العربي الكلاسيكي. امتاز بشعره الحماسي والفخر الذاتي والهجاء والمديح السياسي، لكن موضوع مدحه للنبي محمد ﷺ يثير جدلًا نقديًا وأدبيًا، خاصةً أن ديوانه المعروف لا يتضمن قصائد كثيرة وصريحة في هذا الاتجاه مثل ما نجده في شعراء المديح النبوي من أمثال البوصيري أو ابن نباتة المصري. ورغم ذلك، فقد عُثر على شذرات وأبيات منسوبة إليه تدخل في باب المديح النبوي، ويستوجب الأمر فهم هذه القصائد في سياقها الأدبي والتاريخي والمعرفي.

المتنبي وسياقه الفكري والأدبي

ولد أحمد بن الحسين الكوفي، المعروف بالمتنبي، في الكوفة عام 303 هـ، في زمن مضطرب سياسيًا واجتماعيًا، تميّز بتعدد الدويلات وتداخل الثقافات، حيث كانت بغداد ومراكز الخلافة العباسية تعيش تراجعًا سياسيًا مقابل صعود مراكز سلطوية أخرى مثل الدولة الحمدانية في حلب. لم يكن المتنبي شاعر بلا مشروع، بل كان يحمل تصورًا نخبويًا للذات الشاعرة، حيث طمح إلى التنبؤ بالمعنى الفلسفي لا الديني، وجعل من نفسه رمزًا للعظمة والمعرفة، وهو ما جعله يركز في كثير من أشعاره على الفخر بالذات والتمجيد الذاتي.

لهذا، لا نجد عند المتنبي وفرة في المدائح النبوية مقارنة بشعراء التصوف أو الشعراء الرسميين الذين دأبوا على إطراء الرسول ﷺ كجزء من شعائر الطاعة والتقرب، لكنه مع ذلك لم يُغفل مكانة النبي، وورد في ديوانه أبيات ومقاطع شعرية تعكس تقديره واحتفاءه بمقام النبي الكريم.

القصائد المنسوبة إلى المتنبي في مدح الرسول ﷺ

أبرز ما يُستشهد به في هذا السياق هو قصيدة تُنسب إلى المتنبي بعنوان:

“خيرُ الورى من أتى بالحق واهتدى”

يقول في بعض أبياتها:

خيرُ الورى من أتى بالحق واهتدى

وأزهر الكون من أنواره أبدا

محمدٌ خير خلقِ الله كلهمُ

من جاءنا بالهدى والدينِ مُحتسبا

هذه الأبيات تعكس التقدير العميق لمقام النبي محمد ﷺ، وتستخدم لغة كلاسيكية سامية في وصف النبوة والرسالة. النغمة العامة في هذه الأبيات تتسم بالخضوع والإجلال، وهي تختلف في نبرتها عن الشعر المعتاد للمتنبي الذي يكثر فيه الفخر والحماسة والنزعة العقلانية.

رغم ذلك، يشكك بعض الدارسين في صحة نسبة هذه القصيدة إلى المتنبي، مستندين إلى اختلاف أسلوبها الشعري عن أسلوبه المميز، فضلًا عن عدم ذكرها في أمهات دواوينه المشهورة، كديوان المتنبي الذي جمعه أبو العلاء المعري ونسخه اللاحقون.

قراءة نقدية: بين الإنكار والإثبات

تفاوتت مواقف النقاد والمؤرخين من هذا الجانب من شعر المتنبي، فالبعض يرى أن عدم وفرة قصائد في مدح الرسول ﷺ في شعره لا يعني تجاهلًا لمقام النبوة، بل يُفسّر ضمن الأطر الفكرية والثقافية التي تحكمت في مشروعه الشعري. المتنبي لم يكن شاعر مدائح دينية، بل كان مشغولًا بفكرة الإنسان المتفوق والعقل المفكر، ما جعله أقرب إلى التيارات الفلسفية التي تمجد الذات والعقل، دون أن يكون ذلك رفضًا للنبوة، بل إعادة توجيه للاهتمام الشعري.

من ناحية أخرى، يرى بعض الباحثين أن المتنبي ربما كتب في مدح النبي ﷺ، لكن هذه القصائد لم تلق انتشارًا أو ربما ضاعت مع مرور الزمن. ويُستشهد في هذا السياق بنموذج قصيدة أخرى تُنسب إليه:

ألا هبّ بالحمد يا خاطري وسُرَ

بمدح رسولِ الله سيدِ البشرِ

هذه القصيدة وإن كانت أقرب إلى الأسلوب البلاغي في العصر العباسي، فإنها لا تُدرج ضمن الديوان الرسمي، مما يضعف من مصداقية نسبتها.

الخلفية الدينية والمعرفية للمتنبي

لم يكن المتنبي شاعرًا صوفيًا أو فقيهًا، بل كان فيلسوفًا بالشعر، يتبنى نزعة إنسانية ترتكز على تمجيد الكرامة والعقل والإرادة. وهذا ما يجعل مدحه للرسول ﷺ حين يرد، لا يتبع النمط التقليدي كما هو عند البوصيري في “البردة”، وإنما يأتي غالبًا في سياق عام، يشيد فيه بمكارم الأخلاق أو الكمالات الإنسانية، التي يُعد النبي محمد ﷺ مثالها الأعلى.

وفي هذا السياق، فإن المتنبي، حين يمدح، لا يكتفي بالمشاعر الدينية الصوفية، بل ينسج لغة عقلانية تمتزج فيها الحكمة والبلاغة، ويظهر ذلك حتى في الأبيات القليلة المنسوبة إليه، حيث يكون تركيزه على النور والهداية والسمو الأخلاقي، أكثر من الإغراق في الصفات الروحية والمقامات العرفانية.

مدح الرسول ﷺ في الأدب العباسي بين المتنبي وغيره

للمقارنة، من المفيد النظر إلى شعراء آخرين من نفس العصر الذين أكثروا من مدح الرسول ﷺ، مثل ابن الرومي أو دعبل الخزاعي، إذ كان لهم ميلٌ أقوى إلى صياغة المدائح النبوية ضمن الأطر الدينية والسياسية الشيعية أو السنية. هؤلاء الشعراء كانت لهم دوافع عقائدية واضحة، وكتبوا في مناسبات دينية مثل المولد النبوي والهجرة والإسراء والمعراج، أما المتنبي فقد بقي بعيدًا عن هذه المناسبات في شعره، بل لم يكن شاعر مناسبات دينية من الأساس.

جدير بالذكر أن بعض شعراء العصور التالية قاموا بإضافة أبيات دينية ومدائح نبوية إلى نسخ مزورة أو محرّفة من دواوين المتنبي، رغبة في تقريب الشاعر من الحس الإسلامي العام أو استغلال شهرته لإضفاء القدسية على القصائد، وهو ما فطِن له العديد من النقاد المحدثين وأعادوا تنقيح ديوانه وتنقيته من هذه الإضافات.

الجدول: مقارنة بين أسلوب المتنبي وشعراء المديح النبوي

خاتمة نقدية

في ضوء هذا الاستعراض، يمكن القول إن المتنبي، وإن لم يكن من شعراء المديح النبوي البارزين كما هو الحال مع شعراء العصور المتأخرة، فقد عبّر في بعض مواضع شعره عن تقديره لمقام النبي ﷺ بصورة رمزية عقلانية تتناسب مع مشروعه الشعري الذي يقوم على تمجيد الكمالات الإنسانية والعقل، وهو ما يظهر في الأبيات المنسوبة إليه. هذا الجانب يبقى جزءًا صغيرًا من إنتاجه، لكنه مع ذلك يكشف عن مدى تأثير النبوة في وعي الشعراء حتى أولئك الذين لم يتخصصوا في الشعر الديني.

المراجع

1. طه حسين، مع المتنبي، دار المعارف، القاهرة.

2. ناصر الدين الأسد، مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، دار المعارف.