حفظ اللسان من الغيبة

حفظ اللسان من الغيبة والنميمة

يُعدّ اللسان من أعظم الجوارح تأثيرًا في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، فهو أداة التعبير والكلام، ووسيلة البيان والتواصل، لكنه في الوقت نفسه قد يكون بابًا عظيمًا للشر إن لم يُضبط ويُحكم، خاصةً حين يسترسل صاحبه في الغيبة والنميمة. الغيبة والنميمة من أخطر الآفات الاجتماعية والأخلاقية والدينية، حيث تهدم العلاقات، وتفسد القلوب، وتزرع الشقاق والبغضاء، كما أنها تُعرض صاحبها لعذاب الله ومقته. إن حفظ اللسان من هاتين الآفتين ضرورة شرعية وأخلاقية، وهو من أعظم مجاهدات النفس التي تُقرب العبد من ربه وتُعلي من شأنه.

مفهوم الغيبة والنميمة

الغيبة: هي ذكر الإنسان لأخيه بما يكره في غيبته، سواء كان هذا الذكر متعلقًا بجسده، أو خلقه، أو دينه، أو دنياه، أو ماله، أو أهله، أو غير ذلك مما لا يُحب أن يُقال عنه، ولو كان ما يُقال عنه صحيحًا، كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه» [رواه مسلم].

النميمة: هي نقل الكلام بين الناس بقصد الإفساد، كأن يسمع أحدهم كلامًا من شخص فيذهب فينقله إلى آخر ليوقع بينهما العداوة والبغضاء، وهي من الكبائر، بل من أشد صور الفساد في الأرض، وقد توعد الله صاحبها بعذابه، كما جاء في الحديث: «لا يدخل الجنة نمّام» [رواه مسلم].

خطورة الغيبة والنميمة

1. تدمير العلاقات الاجتماعية: الغيبة تُفقد الثقة بين الناس، وتشيع الظنون السيئة، بينما النميمة تزرع الشك والعداوة، وتُقطّع أواصر المحبة والصلة.

2. إفساد القلوب: من يُكثر الغيبة والنميمة يكون قلبه مريضًا بالحسد والحقد وسوء الظن، ويغيب عنه الإخلاص وصفاء السريرة، ما يؤدي به إلى مزيد من المعاصي.

3. الحرمان من رضا الله: الغيبة والنميمة من الكبائر التي توجب سخط الله، وتُذهب الحسنات، وتزيد من السيئات، وقد شُبِّهت الغيبة في القرآن بأكل لحم الميت، قال الله تعالى:
   
   ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ [الحجرات: 12].

4. الذل في الدنيا والآخرة: كثيرًا ما يُفضح المغتاب والنمام أمام الناس، ويُعامل باحتقار وازدراء، ويُكافأ في الآخرة بالذل والعذاب.

دوافع الغيبة والنميمة

لفهم كيفية حفظ اللسان، من الضروري التعرف على الدوافع النفسية والاجتماعية التي تُغري الإنسان بهاتين الآفتين، ومن أبرزها:

• الحسد: فقد يغتاب الإنسان غيره أو ينقل الكلام عنه بدافع الحسد لما أنعم الله عليه.

• الغضب: حين يغضب الإنسان من أحد، قد يفرغ غضبه بالحديث عنه بالسوء.

• حب الظهور: قد يسعى الإنسان للنيل من الآخرين بالكلام ليظهر نفسه بمظهر الأفضل.

• التسلية والسخرية: يظن بعضهم أن الغيبة والنميمة مجرد وسيلة للضحك والتسلية في المجالس.

• ضعف الإيمان: الغفلة عن مراقبة الله، وضعف الوازع الديني، وعدم استحضار عظمة الذنب.

وسائل عملية لحفظ اللسان من الغيبة والنميمة

حفظ اللسان ليس بالأمر السهل، لكنه ممكن بالتدريب والمجاهدة والتقوى، وهناك وسائل عملية تساعد على ذلك:

أولًا: مراقبة الله في كل قول

الوعي الدائم بأن الله يسمع كل كلمة، ويرى كل تصرف، ويحاسب على كل ما يُنطق به، يُعد أقوى وسيلة لحفظ اللسان. يقول الله تعالى: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].

ثانيًا: تقوية الإيمان والخوف من الحساب

كثرة التأمل في الآيات والأحاديث التي تتحدث عن خطورة الغيبة والنميمة، واستحضار أهوال يوم القيامة، وما فيه من كشف للستر، يُعين المسلم على كف لسانه، والتورع عن الكلام المحرّم.

ثالثًا: إشغال اللسان بالذكر والقرآن

من أهم وسائل حفظ اللسان الانشغال بذكر الله وقراءة القرآن، فكما قال العلماء: إذا لم يشغل الإنسان لسانه بالخير، شغله بالباطل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» [رواه البخاري ومسلم].

رابعًا: تجنب مجالس السوء

الجلوس في المجالس التي يُكثر فيها الناس من الغيبة والنميمة يضعف النفس ويشجعها على المشاركة، ولذلك يجب اختيار الصحبة الصالحة والمجالس التي يُذكر فيها الله ويُتناقش فيها في الخير.

خامسًا: التواضع وعدم التعالي

التواضع يُنتج احترام الآخرين وحفظ حقوقهم، أما المتكبر فيرى في نفسه فضلًا على غيره فيغتابهم وينمّ عليهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» [رواه مسلم].

سادسًا: تربية النفس على الصمت

السكوت عبادة عظيمة، وقد قال لقمان لابنه: «يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة». فالصمت رياضة للنفس، وفيه سلامة من كثير من الآثام.

سابعًا: تغيير الموضوع عند سماع الغيبة

من الشجاعة الأدبية والدينية أن يُغير الإنسان مسار الحديث إذا بدأ في الغيبة أو النميمة، أو أن يُنكر على من يتحدث، قال تعالى:

﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ [القصص: 55].

ثامنًا: الاستغفار والتوبة عند الوقوع

الإنسان قد يزل بلسانه رغم حرصه، لكن المهم هو المسارعة إلى التوبة والاستغفار، والندم، وطلب العفو من الله، ومحاولة تصحيح الخطأ بعدم تكراره، أو برد الاعتبار لصاحب الحق.

الجدول التالي يوضح الفرق بين الغيبة والنميمة:

أثر حفظ اللسان في حياة المسلم

حفظ اللسان من الغيبة والنميمة يُثمر سلامة الصدر، ونقاء القلب، وحسن العلاقة بالناس، ورضا الله، وهو عنوان لعلو الهمة ورجاحة العقل. كما أن من يحفظ لسانه يُرزق بالهيبة والوقار، ويكون محل ثقة الناس، ويُقرّب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا» [رواه الترمذي].

وقد مدح الله عباده المتقين بأنهم لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا، قال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72].

الخاتمة

اللسان من نعم الله العظيمة، ومن أخطر ما يُبتلى به الإنسان إن لم يُحسن استخدامه. الغيبة والنميمة ليسا مجرد أخطاء عابرة، بل هما أمراض قلبية وجوارحية تنخر في بناء المجتمع والأخلاق، وتُعرض الإنسان لسخط ربه. لا يتحقق الفلاح في الدنيا ولا النجاة في الآخرة إلا بتطهير اللسان، وتنقيته من كل قولٍ يجرّ إلى الإثم، وبمجاهدة النفس، وتعويدها على قول الخير أو الصمت. وما أجمل ما قاله الشاعر:

احفظ لسانك أيها الإنسانُ

لا يلدغنّك إنه ثعبانُ

كم في المقابر من قتيل لسانه

كانت تهاب لقاءه الأقرانُ

المصادر:

• صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب.

• تفسير ابن كثير، سورة الحجرات.