3 طرق لاكتشاف خرافة السعادة

في عصرٍ تهيمن فيه الأفكار الاستهلاكية والرسائل الإعلانية ووسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، أصبحت السعادة سلعةً نلهث وراءها بلا توقف، نبحث عنها في المال، الحب، المظهر الخارجي، والنجاحات المتتابعة. وتحت هذا السيل من الإيحاءات، تَتشكل في أذهاننا صورة نمطية محددة لما تعنيه “السعادة”. غير أن هذه الصورة، في كثير من الأحيان، لا تستند إلى واقع نفسي أو علمي، بل إلى “أسطورة السعادة” التي صنعتها الثقافة الشعبية ووسائل الإعلام، والتي تُغذّي توقعات غير واقعية وتقود إلى الإحباط المزمن. لفهم ما إذا كنا قد وقعنا ضحية لهذه الخرافة، نحتاج إلى تقنيات تحليل ذاتي دقيقة تكشف عن المفاهيم المغلوطة التي ترسّخت في وعينا.

أولًا: فهم أسطورة السعادة

أسطورة السعادة تقوم على فكرة أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا عندما تتحقق شروط معينة مسبقة: كأن نحصل على الوظيفة المثالية، أو نتزوج من الشخص “الصحيح”، أو نصل إلى درجة عالية من الثراء، أو نمتلك جسماً مثالياً. تكمن خطورة هذه الفرضية في أنها تؤجل السعادة إلى المستقبل، وتجعلها مرهونة بظروف خارجية غير مضمونة. وبدلاً من أن نعيش السعادة في الحاضر، نصبح مشروطين ومقيّدين بتحقيق سلسلة طويلة من الأهداف، والتي غالباً ما لا تأتي بالسعادة المتوقعة بعد تحقيقها.

الطريقة الأولى: تحليل توقعاتك غير الواقعية

من أبرز العلامات على أنك قد انخدعت بأسطورة السعادة هي أن تكون توقعاتك بشأن السعادة مبنية على شروط صارمة وغير مرنة. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أنك لن تكون سعيدًا إلا إذا تزوجت قبل عمر معين، أو إذا حصلت على ترقية محددة في العمل، فهذا مؤشر واضح على أنك علقت السعادة بمسبباتها المزعومة. علم النفس الإيجابي يُشير إلى أن الأشخاص الذين يربطون سعادتهم بظروف محددة هم أكثر عرضة للإحباط، لأنهم لا يرون القيمة في الحياة اليومية أو اللحظات الصغيرة التي تُصنع منها السعادة الحقيقية.

تشير الدراسات النفسية الحديثة إلى أن الأشخاص الذين يمتلكون “توقعات مرنة” فيما يتعلق بالسعادة يكونون أكثر قدرة على التأقلم مع تقلبات الحياة، وأكثر استقرارًا نفسيًا. وفي هذا السياق، يُنصح بتفكيك تلك التوقعات وتحليلها، وطرح تساؤلات نقدية داخلية مثل: لماذا أعتبر هذا الشرط ضروريًا لسعادتي؟ هل يمكن أن أكون سعيدًا رغم عدم تحقق هذا الشرط؟ هذه الأسئلة ليست للاستفهام بل للتحليل الذاتي العميق الذي يعيد تشكيل القناعات.

الطريقة الثانية: رصد الاعتماد على المقارنات الاجتماعية

المقارنة الاجتماعية تمثل أحد أقوى المؤشرات على أنك أصبحت فريسة لأسطورة السعادة. فعندما تعتمد على مقارنة حياتك بمن حولك لتقييم مدى سعادتك، فأنت بشكل غير مباشر تجعل سعادتك رهينة بما يمتلكه الآخرون. في عالم وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُعرض الحياة في صور مثالية ومنتقاة بعناية، تصبح المقارنات مؤذية ومضللة. وتكمن خطورة هذا النوع من المقارنة في أنه يخلق فجوة بين الواقع والتوقع، ما يؤدي إلى الشعور بالنقص الدائم.

الباحثة سونيا ليوبوميرسكي، المتخصصة في علم النفس الإيجابي، تشير في أبحاثها إلى أن المقارنة الاجتماعية تقوّض السعادة الداخلية، لأنها تجعل الإنسان ينظر إلى ما ينقصه بدلاً من النظر إلى ما يمتلكه. كما تؤكد دراسات أخرى أن الأشخاص الذين يتجنبون المقارنات المفرطة يتمتعون بصحة نفسية أعلى، وقدرة أفضل على الاستمتاع بالحياة.

يُعد تدريب الذات على الامتنان والانتباه إلى التفاصيل الإيجابية في الحياة اليومية من الوسائل الفعالة لتقليص التأثير السلبي للمقارنات الاجتماعية. ومن الوسائل المعرفية المستخدمة في العلاج السلوكي المعرفي، ما يسمى بإعادة الهيكلة المعرفية، حيث يتم تدريب الفرد على تعديل طريقة تفكيره لتقليل الاعتماد على المقارنة كمصدر لتقييم الذات.

الطريقة الثالثة: مراقبة أنماط التعلق بالأهداف

من المؤشرات العميقة على الوقوع في فخ أسطورة السعادة هو التعلق المرضي بالأهداف. وهذا النوع من التعلق يتمثل في الاعتقاد بأن تحقيق هدف معين سيغير نوعياً من حالتك العاطفية بشكل دائم. ولكن الحقيقة التي أثبتتها الأبحاث النفسية أن التأثير العاطفي لأي إنجاز، مهما كان كبيرًا، يكون مؤقتًا. تُعرف هذه الظاهرة بمصطلح “تكيف المتعة” أو Hedonic Adaptation، والتي تشير إلى ميل الإنسان للعودة إلى خط أساس معين من السعادة بعد فترة وجيزة من تحقيق الإنجازات.

إن مراقبة هذا النمط تتطلب فهماً دقيقاً لديناميكية العلاقة بين الأهداف والسعادة. فإذا لاحظت أنك تشعر بالفراغ بعد تحقيق هدف كبير، أو أنك سرعان ما تبدأ بالشعور بعدم الرضا وتبحث عن هدف آخر، فهذا يعني أنك تستخدم الأهداف كوسيلة للهروب من عدم الرضا الداخلي وليس كوسيلة للنمو الحقيقي. في هذه الحالة، يصبح السعي وراء الأهداف مجرد حلقة مفرغة من اللهاث المستمر.

البديل الصحي لهذا النمط هو التركيز على “القيم” بدلاً من الأهداف فقط. فالقيم تمثل المبادئ التي تُضفي معنى على الأفعال اليومية، مثل الشفافية، الإبداع، التعاون، وغيرها. عندما نُوجه جهودنا نحو ما يتوافق مع قيمنا العميقة، فإن الرضا الناتج يكون أكثر دوامًا وواقعية، ويقل الاعتماد على التحفيز الخارجي.

دراسة حالة: الجدول التالي يوضح الفروقات بين معتقدات قائمة على أسطورة السعادة ومعتقدات واقعية قائمة على العلم

أثر خرافة السعادة على الصحة النفسية

تشير الإحصائيات العالمية إلى ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق بين الفئات التي تعيش في مجتمعات تروّج لأساطير النجاح الفردي والسعادة الفورية. وتُظهر دراسات عديدة أن الأفراد الذين يُطاردون السعادة بشكل قهري يشعرون بمستويات أعلى من القلق، ويواجهون صعوبة في الاستمتاع بلحظات الحياة الحاضرة. وقد يرتبط هذا السلوك أيضاً بالإدمان على العمل أو إدمان العلاقات العاطفية أو الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

من جانب آخر، فإن الاعتقاد بأسطورة السعادة يرسّخ شعوراً بالفشل الذاتي المزمن، لأن الشخص يشعر وكأن هناك خطأ ما في حياته لأنه لم يصل بعد إلى “الوعد الذهبي” الذي بُني في ذهنه. ويتفاقم هذا الشعور عندما يرى الآخرين يحققون ما يبدو أنه “نجاحات وسعادات” عبر الإنترنت، فيزيد من الشعور بالاغتراب الداخلي.

نحو وعي نفسي تحرري

التحرر من أسطورة السعادة لا يعني التخلي عن الطموح أو التوقف عن تحسين الذات، بل يعني إعادة تعريف السعادة بطريقة أكثر نضجًا وإنسانية. السعادة ليست محطة، بل هي تجربة عابرة، غالبًا ما تتولد في التفاصيل اليومية، في العلاقات الحقيقية، في التقدير الذاتي، وفي لحظات الصدق مع النفس. إن الطريق إلى سعادة واقعية يمر عبر القدرة على الشعور بالامتنان، ممارسة القبول، تنمية المرونة النفسية، وبناء علاقات تقوم على الحب غير المشروط والدعم المتبادل.

لقد آن الأوان لأن نتعامل مع السعادة كحالة ذهنية يمكن تنميتها عبر الوعي، وليس كجائزة مؤجلة خلف متطلبات لا تنتهي.

المراجع:

• Lyubomirsky, S. (2007). The How of Happiness: A New Approach to Getting the Life You Want. Penguin Press.

• Gilbert, D. (2006). Stumbling on Happiness. Vintage.