الاختلافات الأدبية بين العصر الرومانسي والعصر الفيكتوري

تُعَدُّ الحركة الأدبية الرومانسية والعصر الفيكتوري من أهم المراحل المحورية في تاريخ الأدب الإنجليزي بشكل خاص، والأدب الغربي عمومًا. يكتسب هذان العصران أهمية خاصة ليس فقط بسبب ما قدَّماه من إنتاج أدبي ثري ومتنوع، بل أيضًا بسبب التأثيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي انعكست في نصوصهما، والتي أسهمت في تشكيل ملامح الحداثة والتطوير الثقافي في أوروبا وبقية أنحاء العالم. يمتدّ العصر الرومانسي من أواخر القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، ويشهد انفجارًا فكريًّا في القيم الإنسانية والخيال والحساسية تجاه الطبيعة والذات البشرية. وفي المقابل، يُمثِّل العصر الفيكتوري الفترة التي تتزامن مع حكم الملكة فيكتوريا (1837–1901) حيث شهدت إنجلترا تحوّلات صناعية واجتماعية كبرى، وتركت هذه التحوّلات بصماتها على مختلف الأجناس الأدبية بما في ذلك الشعر والرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي.

تكمن أهمية هذه الدراسة المقارنة في تسليط الضوء على الفروق الجوهرية بين هذين العصرين من حيث الخصائص الأسلوبية والموضوعات المحورية، وكذلك الاستجابة للتغيرات الاجتماعية والثقافية. كما تهدف إلى استكشاف كيفية تلاقح الأفكار بينهما، وكيفية تطور المفاهيم المتعلقة بالإنسان والطبيعة والدين والعلم والفن، وصولًا إلى التأثير على تطورات الحداثة وما بعدها. يقدّم هذا المقال الأكاديمي الطويل والمتعمّق قراءة تحليلية تستعرض السياقات التاريخية، والموضوعات الرئيسية، والمظاهر الفنية لكلا العصرين، ويبيّن الأبعاد الاجتماعية التي انعكست في الأدب، فضلًا عن رصد تحوّل الرؤية الجمالية والذاتية من أجواء الرومانسية الحالمة إلى الواقعية الممزوجة أحيانًا بنوع من المثالية الاجتماعية في العصر الفيكتوري.

ولإثراء الدراسة وتحقيق أكبر قدر من الشمول، سيتناول المقال عدة محاور بدءًا من نشأة وتطوّر الحركة الرومانسية وصولًا إلى صعود العصر الفيكتوري، ثم سينتقل لتفصيل أهم الجوانب الفنية والموضوعية في أدب كلٍّ منهما، إضافة إلى عرض جدول مُفصَّل يقارن أبرز السمات بينهما، ويستعرض أهم الأعلام الذين ساهموا في بناء ملامح المرحلة الأدبية. وفي ختام البحث، سوف يتم عرض بعض الاستنتاجات التي ستلقي الضوء على استمرار أو انقطاع بعض الخصائص الرومانسية في العصر الفيكتوري، وكيف ظهرت الأشكال التعبيرية الجديدة التي مهدت الطريق أمام أدب الحداثة في بدايات القرن العشرين. كما سيتم ذكر بعض المراجع والمصادر المهمة لمن يريد الاستزادة والتعمّق أكثر في هذا الموضوع.

المحور الأول: السياق التاريخي والثقافي

1.1 نشأة وتطوّر العصر الرومانسي

المصطلح “رومانسي” في الأدب والفن يشير إلى حركة فكرية وثقافية ظهرت بقوة في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر وامتدّت حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر. يُعتقد أنّ نشأة هذه الحركة ترجع إلى عدة عوامل تاريخية وفلسفية وثقافية، تأتي في مقدمتها الثورة الفرنسية (1789) بأفكارها التحررية التي ألهمت شعوب أوروبا، بالإضافة إلى الثورة الصناعية التي غيّرت وجه المجتمعات الأوروبية من مجتمع زراعي تقليدي إلى مجتمع صناعي حديث. وبجانب هذه العوامل الخارجية، نشأت داخل الفكر الفلسفي تيارات نقدية تعارض النزعة العقلانية الصارمة التي سيطرت على القرن الثامن عشر (عصر التنوير)، فكانت الرومانسية رد فعل يُعلي من شأن العاطفة والخيال والذاتية.

وقد ظهر هذا التوجّه بقوّة في الأدب الإنجليزي من خلال كوكبة من الشعراء والكتّاب الذين أتوا بمنظومة قيم جديدة تدعو للانطلاق نحو الطبيعة والتأمل فيها، والارتقاء بالمشاعر الفردية، والاحتفاء بالخيال، ونبذ الكلاسيكية الجامدة. تميّز الأدب الرومانسي في إنجلترا بإعلاء شأن الفنان الفرد المبدع الذي ينطلق بحريته ويتجاوز القيود القواعدية، سواءٌ في الشعر أو النثر أو المسرح. كانت القصيدة الرومانسية تميل إلى التعبير الحميمي والعاطفي، وإبراز الجانب الروحي والميتافيزيقي للطبيعة، كما اتسمت بالنزعة الحالمة والتمرد على الأشكال التقليدية.

1.2 بداية العصر الفيكتوري والسياق الثقافي

يتزامن العصر الفيكتوري مع فترة حكم الملكة فيكتوريا (1837–1901)، وقد شهدت تلك المرحلة تحولات جذرية في بنية المجتمع الإنجليزي. إذ ازدهرت الصناعة ونمت المدن بسرعة، ما أدى إلى ظهور طبقات اجتماعية جديدة وانفتاح المجتمع على تحديات حضرية وأخلاقية. ساهمت التقنيات الحديثة في اتساع رقعة التجارة وفي تقصير المسافات بين الدول، فيما انعكس ذلك على ظهور النزعة الاستعمارية البريطانية بقوة، وتأسيس إمبراطورية مترامية الأطراف. ومن الناحية الاجتماعية، بدأت طبقة وسطى جديدة في التبلور، ما أدى إلى تغييرات في القيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية.

في ظل هذه التحولات الكبرى، شهد الأدب تطورًا ملحوظًا. إذ ظهرت الرواية بوصفها الجنس الأدبي الأكثر رواجًا، فأصبحت وسيلة للكشف عن هموم الفرد في المدينة الحديثة، والتصدّي لظواهر اجتماعية مثل الفقر والظلم والاستغلال. اتسم الأدب الفيكتوري أيضًا بالنزعة الأخلاقية التي حرصت على توجيه القارئ نحو قيم محدّدة، فيما حافظ الشعر على مكانته ولكنّه اتجه نحو لغة أكثر واقعية، وأحيانًا اتسم بالرمزية الدينية أو الأخلاقية.

المحور الثاني: الخصائص الأسلوبية والموضوعية في العصر الرومانسي

2.1 تمجيد الطبيعة والتعبير العاطفي

من أبرز سمات الأدب الرومانسي تركيزه الشديد على الطبيعة واعتبارها مصدرًا للإلهام الروحي والجمالي. ظهرت الطبيعة في الشعر والقصص والروايات بوصفها قوة حية تحمل رموزًا من الجمال والحرية والخلاص من قيود الحياة الحضرية. ولم يكن النظر إلى الطبيعة مقصورًا على الجانب الجمالي فحسب، بل امتد ليشمل التأمل الروحي والعلاقة الحميمة بين الإنسان والكون. فقد رأى الشعراء الرومانسيون، مثل ويليام ووردزوورث و صامويل تايلور كولريدج، أنّ الطبيعة هي المدرسة العظمى للإنسان، إذ يتعلم من خلالها القيم الحقيقية والصدق العاطفي.

امتازت اللغة الرومانسية بالعاطفة الجياشة والتصوير الوجداني للشعور الإنساني. كانت القصائد تركّز على الأنا (الذات الفردية) أكثر من التركيز على المجتمع ككيان جماعي. تجلت هذه السمة في أشعار جون كيتس، وبيرسي بيش شيلي، ولورد بايرون، حيث تظهر ثيمات الحب والألم والحنين والموت والخلود بشكل عميق ومكثف. يُلاحظ أيضًا أن الرومانسيين لجؤوا إلى استخدام صور بلاغية مبتكرة، أخرجت الشعر من قيود التقاليد الكلاسيكية الصارمة ومنحته أفقًا جديدًا يعانق الخيال.

2.2 النزعة الفردية والتمرد على الأعراف

مثّل التمرّد الفكري والمجتمعي أحد أهم الملامح الرومانسية؛ إذ رأى الأدباء الرومانسيون أن الإنسان الفرد هو محور الكون، ويجب أن تُحترم حريته في التفكير والتعبير. برز ذلك في أفكار جان جاك روسو التي انتشرت بقوة في إنجلترا، وكان لها تأثير في تكريس أهمية النزعة الفردية وسمو المشاعر الإنسانية على القواعد الكلاسيكية والمنطق العقلاني. من هنا جاءت الدعوة الرومانسية إلى رفض الأشكال الأدبية المتصلبة والسعي نحو التجديد والابتكار.

وفي السياق ذاته، تجلى التمرد على الأعراف في عدة مظاهر؛ منها مثلًا ميل الرومانسيين إلى تفسير الدين والفلسفة بشكل أكثر روحانية وشخصانية بدل التقيّد بالمؤسسات. كما انعكس هذا التمرّد في التناول الشجاع لموضوعات محظورة أو صادمة للوعي الاجتماعي في ذلك الزمن، مثل نقد الاستبداد السياسي أو انتقاد المؤسسات الدينية، أو حتى الاحتفاء بمشاعر الحب الجامحة والعلاقات الإنسانية المعقّدة. وقد وجد كثير من النقاد في الأدب الرومانسي موقفًا ثوريًّا ضد كل ما هو تقليدي وسائد.

2.3 تصوير الخيال والأحلام والعوالم الخارقة

تميّز الرومانسيون بالتوجه نحو الخيال والأحلام والعوالم الخارقة للطبيعة، فقد رأوا في ذلك تجاوزًا للواقع المحدود واستكشافًا لأبعاد جديدة من الوعي الإنساني. نماذج هذا الاتجاه كثيرة؛ مثل قصيدة “قصيدة البحّار العجوز” (The Rime of the Ancient Mariner) لصامويل تايلور كولريدج التي تمزج بين الواقعية والغرائبية، وتدفع القارئ إلى عالم ميثولوجي مثير للتساؤلات. كذلك اهتم الرومانسيون بمفهوم “اللاوعي” وصوّروا كثيرًا من المشاعر والأفكار التي لم تكن تقليديًا مادةً أدبية، مما فتح الباب أمام مدارس أدبية لاحقة مثل الرمزية والحداثة لتوسيع مفهوم النص الأدبي.

وقد اتسم هذا الانفتاح على الخيال بأبعاد جمالية وفلسفية، إذ نظر الرومانسيون إلى الفن باعتباره وسيلة لتجاوز النقص في حياة البشر، ومنحهم تجربة جمالية وروحية أسمى. لهذا كان التخييل لديهم ليس مجرّد هروب من الواقع، بل عملية خَلق لعالم بديل يعبر فيه الإنسان عن حقيقته الوجدانية بلا قيود. نشأ عن هذا الموقف تيار من أدب الرعب القوطي والرومانسية السوداء، حيث يتداخل الخيال بالحياة اليومية بأجواء غامضة ومخيفة، كما هو الحال في أعمال ماري شيلي (مؤلفة “فرانكنشتاين”) وإدغار آلان بو.

2.4 الحنين إلى الماضي والاهتمام بالتراث الشعبي

كان الحنين إلى الماضي ملمحًا واضحًا في الأدب الرومانسي، إذ اتجهت أنظار الكتاب والشعراء إلى الأساطير والحكايات الشعبية والتراث الثقافي القديم لاستلهام الأفكار والرموز. شهدت تلك الفترة صعود النزعة القومية في الأدب، وتجلّى ذلك في اهتمام الأدباء بالحكايات والبطولات القديمة للشعوب. في إنجلترا مثلًا، تم إحياء القصص الملحمية والأساطير الكلتية والإنجليزية القديمة، كما التأثر بالتراث الإسكندنافي والألماني. وجدت الرومانسية في هذا التراث ملاذًا يُلهمها بالجمال والأصالة، وينأى بها عن التبعية للأشكال الأدبية الإغريقية-الرومانية التي كانت تهيمن في العصر الكلاسيكي الجديد.

ساهم هذا المنحى في خلق أعمال أدبية تجمع بين الماضي والحاضر، وتحاور التراث الشعبي من منظور جديد يمجِّد الحرية والفردانية. تجلّى ذلك في الشعر الغنائي الذي يوظّف الأسطورة كرمز لمواقف إنسانية معاصرة، وكذلك في بعض الروايات الرومانسية التي حاولت إحياء حقب تاريخية قديمة في حبكة قصصية حديثة.

المحور الثالث: الخصائص الأسلوبية والموضوعية في العصر الفيكتوري

3.1 نزعة الواقعية والتحليل الاجتماعي

على الرغم من استمرار حضور بعض الملامح الرومانسية خلال السنوات الأولى من العصر الفيكتوري، إلا أنّ تغيّرات الواقع الاقتصادي والاجتماعي دفعت الأدباء إلى التركيز أكثر على تصوير المجتمع بقضاياه ومشكلاته، وهنا برزت الرواية كجنس أدبي رائد. لقد تميّز الأدب الفيكتوري بالواقعية في الطرح والاهتمام برسم الشخصيات بدقة وتحليل دوافعها وسلوكياتها في سياق اجتماعي محدَّد. وكان الهدف من ذلك في كثير من الأحيان توعية القارئ بقضايا مثل الفقر، واضطهاد المرأة، والفجوة الطبقية، والفساد.

وقد شكّلت أعمال تشارلز ديكنز مثالًا بارزًا على الأدب الواقعي الفيكتوري الذي يرصد أحوال الطبقات الفقيرة، ويلقي الضوء على معاناة الأطفال العاملين في المصانع والشوارع. كما اهتمّ ديكنز بالأبعاد الأخلاقية ونقد المجتمع الصناعي الذي يهمّش الإنسان لصالح الربح. ومن جانب آخر، قدّمت الروايات الفيكتورية صورًا متباينة عن المدينة، فرصدت الجوانب المظلمة للحياة الحضرية جنبًا إلى جنب مع قصص صعود الطبقة الوسطى وتطلعاتها.

3.2 النزعة الأخلاقية والدينية

اتصفت الحقبة الفيكتورية بتوجّه أخلاقي واضح، الأمر الذي عكسه الأدب في معظم أنواعه. سادت قيم مثل الجدّية في العمل والانضباط والنزاهة والتزام الأعراف الاجتماعية، وتم تشجيع هذه القيم سواء في الحياة اليومية أو في النصوص الأدبية. شكّل الدِّين عنصرًا رئيسيًّا في الفكر الفيكتوري، وتأثر الأدب بمختلف الطوائف المسيحية السائدة في إنجلترا آنذاك. ظهرت الرؤى الدينية في الشعر على نحو خاص، حيث قدّم ألفرد تينيسون (Alfred Tennyson) نصوصًا شعرية تتعامل مع قضايا الإيمان والشك والخلود، ويُعَدُّ من أبرز الشعراء الفيكتوريين الذين حاولوا التوفيق بين الإيمان المسيحي والمتغيرات العلمية والفلسفية.

وفيما يتعلق بالرواية، فقد عالج كثير من الكُتّاب القضايا الأخلاقية وحاولوا تقديم رسائل اجتماعية. على سبيل المثال، تجلّت النزعة الأخلاقية في أعمال الأختين برونتي (تشارلوت وإميلي برونتي)، إذ تضمّنت رواياتهما مثل “جين أير” و“مرتفعات ويذرينغ” نزعة رومانسية ولكنها لم تغفل الصراع الأخلاقي والاجتماعي، كما تميّزت بمساءلة الأطر الدينية السائدة والمواقف المتشدّدة في المجتمع الريفي الإنجليزي.

3.3 توسّع دور الرواية وبناء الشخصية

شهد العصر الفيكتوري نضوج الرواية بوصفها وسيلة أدبية أساسية للتعبير عن قضايا الفرد والمجتمع. اتسع مجال الرواية ليشمل موضوعات متنوّعة، من العلاقات الأسرية والحياة الزوجية إلى مشكلات الطبقة العاملة وصراعات الحب والواجب. ركّزت الرواية الفيكتورية على رسم الشخصيات بعمق، وكثيرًا ما اعتمدت على الحبكة المعقّدة التي تتيح للكاتبة أو الكاتب تناول جوانب متعددة من حياة المجتمع. كان أسلوب السرد يهدف إلى جذب القارئ عبر التشويق وتسليط الضوء على المشاعر الداخلية والأحداث الخارجية على حد سواء.

وقد أسهمت اللغة في تعزيز هذا المنحى؛ إذ غالبًا ما اتسمت الروايات بالفصاحة والاتزان والوضوح، بعيدًا عن التجريب الشكلي الكبير، مع احتفاظها أحيانًا بنبرات شعرية خفيفة أو استعارات رومانسية مستمدة من جذور سابقة. في المقابل، كانت اللغة أيضًا أداة نقدية تكشف عن التناقضات الاجتماعية وتنتقد النظام الأخلاقي أو السياسي السائد. إن هذا التركيب المزدوج بين السرد المشوّق والتحليل الاجتماعي العميق هو ما ميّز الرواية الفيكتورية عن الرواية الرومانسية التي كان اهتمامها موجهًا في الأساس نحو الفردية والخيال.

3.4 العلاقة مع العلم والتقدّم التقني

تزامن العصر الفيكتوري مع ازدهار كبير في مجال العلوم والاكتشافات، منها التطور في علم الأحياء مع نشر نظرية التطور لداروين (1859)، وكذلك التقدّم في الكيمياء والفيزياء والطب. أثّر هذا المناخ العلمي الجديد في نظرة الأدباء إلى الإنسان والطبيعة والكون، فانتشر الشعور بالدهشة إزاء الاكتشافات الجديدة، كما انتشرت بالمقابل حالات من الاضطراب والقلق الفكري حيال بعض النظريات التي تتعارض مع الفهم التقليدي للوجود.

تجلى ذلك في عدد من النصوص الأدبية التي عالجت العلاقة الملتبسة بين الإيمان والعلم، كما نجد في بعض أشعار ماثيو أرنولد (Matthew Arnold) وروايات هربرت جورج ويلز (H.G. Wells) اللاحقة في أواخر القرن التاسع عشر. وفي حين حافظ بعض الكُتّاب على موقف محافظ إلى حد ما، دعا آخرون إلى الانفتاح على الأفكار العلمية واستخدامها كمنطلق لنقد المجتمع والدين. ولعل هذا المعترك قد عزّز ميل الأدب الفيكتوري إلى الواقعية والتحليل النفسي والاجتماعي.

المحور الرابع: الفروق الجوهرية في الشكل والأسلوب بين الأدب الرومانسي والأدب الفيكتوري

4.1 الشعر بين الحسّ الوجداني والرؤية الأخلاقية

في حين يُعَدّ الشعر الرومانسي انعكاسًا للذاتية والعاطفة المنطلقة من الفرد إلى الكون، فإنّ الشعر الفيكتوري يحمل همومًا أخلاقية واجتماعية أكثر وضوحًا. إذ نجد التركيز على المشاعر العميقة في القصيدة الرومانسية، فيما يميل الشعر الفيكتوري إلى التأمل الفكري وقضايا الإيمان والفضيلة. وقد حافظ شعراء العصر الفيكتوري على نبرة وجدانية، لكنهم كانوا أكثر انخراطًا في الواقع الاجتماعي والقلق الديني.

كما أنّ الشعر الرومانسي غالبًا ما اتخذ الطبيعة مسرحًا رئيسيًّا للتأمل والسفر العقلي، في حين أنّ الشعر الفيكتوري احتفظ بأهمية الطبيعة ولكنّه ضمّنها تساؤلات أخلاقية ودينية لا تنفصل عن التحولات الجارية. ويبرز ألفرد تينيسون كمثال، حيث تعكس قصائده مثل “في ذكرى” (In Memoriam) المناجاة الداخلية مع الله والكون نتيجة فقدان صديق مقرّب، مما يشير إلى توتر كبير بين الرؤية الروحية والواقع العلمي الجديد.

4.2 الرواية بين الذاتية والتصوير الواقعي

على الرغم من وجود بعض الروايات الرومانسية في بدايات القرن التاسع عشر، إلا أنّ شكل الرواية كان لا يزال في طور النمو، ولم يحظَ بالرواج ذاته الذي حظي به الشعر. ركّزت الرواية الرومانسية – حين ظهرت – على العلاقة بين البطل الفرد والطبيعة أو المجتمع، غالبًا في قالب غنائي أو خيالي. أما الرواية في العصر الفيكتوري فقد شهدت تطوّرًا مذهلًا لتصبح أكثر الأنواع الأدبية شعبية. هنا تُستخدم الرواية كأداة قوية لتحليل واقع المجتمع وتناول مشكلات الطبقات المختلفة.

يُمكن القول إنّ الرواية الفيكتورية وُجدت في بيئة فكرية تنزع نحو الإصلاح الاجتماعي والجدل الأخلاقي، ومن ثم بات بناء الشخصية ودراسة دوافعها سمة جوهرية. ولعل إسهام تشارلز ديكنز، وجورج إليوت، و توماس هاردي، وويليام ميكبيس ثاكري، أبرز دليل على هذا الاتجاه، حيث كانوا يصوّرون المجتمع بصدق وجرأة، ويستخدمون تقنيات السرد المتقدمة (مثل الشخصيات المتوازية، والحوار الواقعي) للتأثير في القارئ.

4.3 اللغة والأسلوب الفني

تتّسم اللغة الرومانسية بالشاعرية المتدفقة والصور البلاغية التي تسعى إلى تأسيس علاقة عميقة بين الذات والطبيعة أو بين الإنسان والخيال. كانت هذه اللغة تحفل بالاستعارات والتشبيهات التي تنبع من الاندماج الوجداني في موضوع القصيدة أو العمل الأدبي. أما في العصر الفيكتوري، ورغم أنّ الشعر احتفظ بجماليته التعبيرية، فإنّ الرواية أصبحت لغةً للتواصل مع الجمهور الأوسع. تميل اللغة الفيكتورية إلى الوضوح والتفصيل، وإلى استخدام تقنيات وصفية دقيقة تحيط بالشخصيات والبيئة الاجتماعية.

ومع انتشار التعليم بين فئات أكبر من المجتمع وتوسّع الطبقة المتوسطة، صار الأدب الفيكتوري يوجّه خطابه إلى جمهور أعرض، ممّا دفع الكتّاب إلى تبسيط الأسلوب نسبيًّا دون التفريط في القيمة الفنية. لا يعني هذا أنّ العصر الفيكتوري خلا من الأساليب الأدبية الراقية أو التجريب، بل يعني أنّ اللغة أصبحت أكثر تنوعًا لتلائم المستويات المختلفة من القُرَّاء.

المحور الخامس: الأبعاد الفكرية والفلسفية

5.1 الرومانسية بوصفها ثورة على العقلانية

تُعد الرومانسية من الناحية الفلسفية ثورة على العقلانية التي سادت في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فقد ركّز التنوير على العقل والمنهج العلمي باعتبارهما أداتين لفهم الكون والسيطرة عليه، في حين جاءت الرومانسية لتؤكّد على محدودية العقل وحاجة الإنسان إلى الاعتماد على العاطفة والإلهام والحدس. رأى الفلاسفة الرومانسيون أنّ الإنسان كائن مركب من مشاعر وأشواق روحية لا يمكن اختزالها في مقولات عقلية فقط.

ولذلك يُنظَر إلى الرومانسية بوصفها استجابة إنسانية بامتياز، تتجاوز النظم الصارمة التي حاولت رسم حدود واضحة لكل شيء. هذه الرؤية انسجمت مع تصاعد الاهتمام بالفنون واللاهوت اللاعقلي، حيث وجد كثيرون في الخيال والفن والشعر طريقًا نحو فهم أعمق لحقائق الوجود، تلك الحقائق التي لا يستوعبها العقل وحده. لذا انتشر الاهتمام بالظواهر الغامضة والمشاعر القوية والأحلام بوصفها تعبيرًا عمّا لا يُقال.

5.2 العصر الفيكتوري بين الإيمان والشك

في المقابل، وجد الأدباء الفيكتوريون أنفسهم في خضم تحولات علمية وثقافية عميقة دفعتهم إلى إعادة النظر في مفاهيم الإيمان والخير والشر. إذ جاءت نظرية التطور لداروين وغيرها من الاكتشافات العلمية لتقدّم تفسيرًا ماديًّا لنشأة الإنسان وتطوّره، وهو ما أحدث هزة عنيفة في الأوساط المسيحية والفكرية. أثّرت هذه التغيرات في نظرة الأدباء إلى العالم، فانقسموا بين محافظين يتمسكون بالإيمان التقليدي ومجددين يطالبون بتكييف الرؤية الدينية مع المعارف العلمية الجديدة.

ظهرت في الأدب الفيكتوري تساؤلات حول معنى الحياة والعدالة الإلهية، كما عالج الكتّاب فكرة صراع الإنسان مع القدر. بعضهم انتهى إلى رؤية سوداوية للوجود، كما في روايات توماس هاردي حيث يهيمن قدر قاسٍ على مصائر الشخصيات، في حين حاول آخرون، مثل جورج إليوت، إيجاد بدائل أخلاقية ودينية تتوافق مع روح العصر. من هنا اكتسب الأدب الفيكتوري عمقًا فكريًّا وفلسفيًّا بلغ ذروته في نهاية القرن التاسع عشر عندما بدأت تيارات الحداثة تظهر رويدًا رويدًا.

المحور السادس: الأبعاد الاجتماعية في الأدب الرومانسي والأدب الفيكتوري

6.1 المجتمع في الرومانسية بين النخبوية والتركيز على الذات

تجاهلت الرومانسية في كثير من نصوصها هموم المجتمع المباشرة، وفضّلت أن تتوجّه نحو الذات الفردية والعلاقة مع الطبيعة. لهذا السبب، اتّهم بعض النقاد الحركة الرومانسية بالنخبوية أو بالانسحابية من المشكلات الواقعية. ومع ذلك، لا يخلو الأدب الرومانسي من إشارات إلى القضايا الاجتماعية والسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالحرية ورفض الاستبداد، مثلما نرى في بعض أعمال لورد بايرون الثورية.

لكنّه عمومًا، ظلّ الاهتمام بالرؤية الفردية والمشاعر الداخلية هو الأقوى، وقد كانت تلك المشاعر أحيانًا معبِّرة عن تمرد غير مباشِر على الأعراف الاجتماعية. في حالات قليلة، تحوّل الشاعر الرومانسي إلى مُصلح اجتماعي عندما استخدم قوة الخيال لإثارة الوعي بالعوائق التي يفرضها المجتمع على حرية الإنسان، إلّا أنّ هذه الميزة ظلت أقل بروزًا مقارنة مع الأدب الفيكتوري.

6.2 المجتمع في الفيكتورية بين الطبقات والصناعة والاستعمار

ارتبطت إنجلترا في العصر الفيكتوري بثورة صناعية هائلة غيّرت ملامح الحياة، فلم يعد المجتمع ريفيًّا زراعيًّا بصورة رئيسية، بل أصبحت المدن مراكز اقتصادية كبرى. برزت قضايا الطبقة العاملة التي عانت من ظروف عمل قاسية، كما ازدادت الفجوة بين الفقراء والأثرياء، وظهر الثراء الفاحش في مقابل الفقر المدقع. تصدّى كثير من الروائيين والشعراء لهذه القضايا، فكتبوا عن العمالة الأطفال، وعن النفاق الاجتماعي، واستغلال المرأة في المجتمع الذكوري.

إلى جانب ذلك، شهدت بريطانيا توسّعًا استعماريًّا عزّز من ثرائها وقوتها السياسية، وخلق هرمية عالمية جديدة تتوزع فيها موازين القوى. انعكس هذا في الأدب الفيكتوري على عدة مستويات؛ فمن جهة، نجد كتابات تحتفي بعظمة الإمبراطورية، ومن جهة أخرى ظهرت أعمال نقدية تفضح أحيانًا الوجه القاسي للاستعمار. ولعل هذه التناقضات الاجتماعية والسياسية جعلت الأدب الفيكتوري أكثر ارتباطًا بالقضايا العامة من الأدب الرومانسي الذي ركّز في الأساس على التجربة الذاتية.

المحور السابع: الجدول المقارن للخصائص الأساسية بين العصر الرومانسي والعصر الفيكتوري

المحور الثامن: أبرز الشخصيات والأعمال في العصر الرومانسي

8.1 ويليام ووردزوورث (1770–1850)

يُعَدُّ ووردزوورث من مؤسسي الحركة الرومانسية في الأدب الإنجليزي، إذ دعا في مقدمته الشهيرة لديوان “بالادز غنائية” (Lyrical Ballads) إلى استخدام لغة بسيطة قريبة من لغة العامة، والتركيز على مشاعر الإنسان وارتباطها بالطبيعة. انعكست فلسفته في معظم أعماله، فكانت الطبيعة عنده مصدرًا للإلهام الروحي والأخلاقي، وهي ترتقي بمشاعر الإنسان وتساعده على اكتشاف جوهره الحقيقي.

8.2 صامويل تايلور كولريدج (1772–1834)

اشتهر كولريدج بشعره الذي يجمع بين الواقع والخيال بصورة مبهرة، كما في “قصيدة البحّار العجوز”. امتلك رؤية فلسفية عميقة للأدب والفن، وتناول في أشعاره قضايا ميتافيزيقية ووجودية. يُنسب إليه أيضًا فضل توسيع آفاق الشعر الإنجليزي نحو آفاق خيالية وأسطورية، ممهدًا الطريق أمام المدارس اللاحقة التي اعتنت بالرمزية والمجاز.

8.3 جون كيتس (1795–1821)

على الرغم من حياته القصيرة، ترك كيتس بصمة عظيمة في الشعر الرومانسي بفضل لغته الشاعرية الثرية وصوره المبتكرة. تناول الموت والخلود والجمال في أعماله، وسعى إلى تعميق مفهوم التجربة الجمالية بوصفها غاية في ذاتها. يرى نقاد الأدب أن كيتس قد بلور رؤية رومانسية شديدة النضج على الرغم من شبابه، وتُعَدّ قصائده مثل “مرثية للجمال الراحل” و”قصيدة إلى العندليب” في مصاف روائع الشعر الإنجليزي.

8.4 لورد بايرون (1788–1824)

ارتبط اسم بايرون بالشخصية “البايرونية” التي تتصف بالتمرّد والعاطفة القوية والقلق الوجودي. اشتهر بقصائده الطويلة وأشعاره التي تعكس التحرر من قيود التقاليد، مثل “شيلد هارولدز بيلجرمج” (Childe Harold’s Pilgrimage). كانت حياته الشخصية صاخبة ورحلاته وأسفاره تنعكس في أعماله، فمزجت بين النزعة الرومانسية والرؤية النقدية للمجتمع الأوروبي.

8.5 بيرسي بيش شيلي (1792–1822)

تأثرت أعماله بالأفكار الثورية والإنسانية، واشتهر بشعره العاطفي والعميق. كتب عن الحرية والحب والمساواة، ودعا في بعض قصائده إلى الثورة على الظلم. مثلًا، تعكس قصيدته “قناع الأناركية” (The Mask of Anarchy) آرائه السياسية الراديكالية. يمتاز شعره بالصور الساحرة والخيال الجامح، إضافة إلى نزعة تأملية وروحية واضحة.

المحور التاسع: أبرز الشخصيات والأعمال في العصر الفيكتوري

9.1 تشارلز ديكنز (1812–1870)

من أشهر روائيي القرن التاسع عشر، قدّم أعمالًا كبيرة سلطت الضوء على الحياة الاجتماعية في إنجلترا، وفضحت مظاهر الظلم والفقر. من بين أعماله “أوليفر تويست” و”قصة مدينتين” و”ديفيد كوبرفيلد”. تميّزت رواياته بالحسّ الإنساني العالي والنقد اللاذع للمجتمع الرأسمالي الذي يستغل الأطفال والفقراء. كانت شخصياته متنوعة وتمثّل شرائح مختلفة من المجتمع، مما أعطاها واقعية شديدة.

9.2 جورج إليوت (1819–1880) (اسمها الحقيقي ماري آن إيفانز)

تعتبر من أبرز الروائيات في العصر الفيكتوري، عُرفت بتحليلها العميق للشخصيات وتسليط الضوء على القضايا الأخلاقية. من بين أعمالها “ميدل مارش” (Middlemarch) التي تُعَدّ من أفضل الروايات الإنجليزية على الإطلاق. اتخذت إليوت موقفًا نقديًا من المجتمع، وسعت إلى إبراز دور الأخلاق الفردية في رسم ملامح الحياة، مع اهتمام خاص بمصير المرأة في ظل القيود الاجتماعية السائدة.

9.3 توماس هاردي (1840–1928)

تمثّل أعمال هاردي جسرًا بين العصر الفيكتوري والحداثة، إذ تناول في رواياته قضايا القدر والحتمية وصراع الإنسان مع ظروفه الاجتماعية والطبيعية. من أشهر رواياته “تيس من آل داربرفيل” (Tess of the d’Urbervilles) و”جود الغامض” (Jude the Obscure) اللتان أثارتا جدلًا كبيرًا بسبب جرأتهما في مناقشة المعايير الأخلاقية والدينية. اتسم أسلوبه بنزعة سوداوية أحيانًا، ونقد لاذع للمجتمع الريفي والعادات المتحجرة.

9.4 ألفرد تينيسون (1809–1892)

اشتهر بكونه شاعر البلاط الإنجليزي في عهد فيكتوريا، وتميّزت أعماله بقدرة فائقة على التعبير عن المشاعر الإنسانية وتأمل قضايا الإيمان والخلود. من أبرز أعماله “في ذكرى” (In Memoriam)، وهي قصيدة طويلة رثى فيها صديقه المقرب، مسجّلًا تأملاته حول الألم والموت والأمل. يعدّ تينيسون رمزًا للشعر الفيكتوري الذي يسعى للتوفيق بين الوجدان الفردي والإطار الاجتماعي-الديني.

9.5 الأخوات برونتي (شارلوت، إميلي، آن)

قدّمت الأخوات برونتي إسهامات كبيرة في الرواية الإنجليزية؛ حيث يُعَدّ “جين أير” (1847) للكاتبة شارلوت برونتي عملًا رائدًا في تصوير استقلالية المرأة وكرامتها. بينما تمثّل رواية “مرتفعات ويذرينغ” (1847) لإميلي برونتي مثالًا قويًّا على الرومانسية القاتمة والنفسية البشرية المعقّدة. وقد تميّزت هذه الأعمال بجمعها بين الوجدانية الرومانسية والأسئلة الاجتماعية والأخلاقية المعاصرة.

المحور العاشر: استمرارية بعض الخصائص الرومانسية في العصر الفيكتوري

على الرغم من أنّ العصر الفيكتوري شكّل قطيعة نسبية مع الرومانسية، وخاصةً من ناحية الاهتمام بالواقع الاجتماعي والواقعية الأخلاقية، إلّا أنّ هناك استمرارية في بعض العناصر الرومانسية. تمثل الطبيعة – على سبيل المثال – عنصرًا أساسيًّا لدى كثير من شعراء العصر الفيكتوري، كألفرد تينيسون وماثيو أرنولد، لكنّها لم تعد مصدرًا مطلقًا للخلاص الروحي بقدر ما أصبحت مساحة للتأمل بين الإيمان والشك، وبين الماضي والمستقبل.

كذلك لم يختفِ تمامًا عنصر الخيال والتمرد على التقاليد، إذ نجد في بعض الروايات الفيكتورية قدرًا من الأسلوب الرومانسي في رسم الشخصيات البطولية أو في طرح المعاناة الإنسانية بصبغة تراجيدية. كما واصلت بعض الأصوات الشعرية الرومانسية تأثيرها على الأدباء الفيكتوريين الذين استلهموا لغتهم الشاعرية واستخدامهم للصور البلاغية. ولهذا يمكن القول إنّ العصر الفيكتوري لم يلغي الرومانسية، بل أعاد توجيهها وتكييفها مع واقع مجتمعي وعلمي وأخلاقي جديد.

المحور الحادي عشر: أثر كلا العصرين على تطورات الحداثة

11.1 جذور الحداثة في التمرد الرومانسي

لا يمكن فهم تيارات الحداثة في النصف الأول من القرن العشرين دون تقدير الأثر الذي خلّفته الرومانسية، فقد مهدت الرومانسية الطريق أمام فكرة حرية الإبداع وتخليص العمل الأدبي من القوالب الجامدة. كما أن احتفاء الرومانسيين بالخيال والذاتية فتح الباب أمام التجريب في الشعر والنثر والمسرح. فعلى الرغم من أنّ الحداثة سعت إلى تجاوز الرومانسية في نواحٍ كثيرة، إلا أنّها حافظت على روح المغايرة والبحث عن آفاق جديدة للتعبير.

11.2 امتداد النهج الواقعي من الفيكتورية إلى ما بعد الحداثة

من جانب آخر، أثّر المنحى الواقعي في الأدب الفيكتوري على تشكّل اتجاهات متعددة في الأدب الحديث. إذ استفاد كتّاب الواقعية الجديدة والطبيعية في أواخر القرن التاسع عشر من نمط التحليل الاجتماعي والشخصي الذي أرسته الرواية الفيكتورية. وظهرت تيارات تحاكي البناء الروائي المعقّد لتشارلز ديكنز وجورج إليوت، ولكن بتطبيق نظرة أكثر تشاؤمًا أو راديكالية تجاه المجتمع. حتى تيارات ما بعد الحداثة استفادت بطريقة أو بأخرى من تقنيات السرد التي تطوّرت في العصر الفيكتوري، مثل المنظور المتعدد والشخصيات المركبة.

علاوة على ذلك، فإنّ أسئلة الشك والإيمان والعلم التي طُرِحت بقوّة في العصر الفيكتوري ألهمت الأجيال اللاحقة من الكتّاب والفلاسفة والمفكرين، مثل تي إس إليوت وفرجينيا وولف وجيمس جويس، في إعادة النظر في مركزية الإنسان وصورته عن نفسه والعالم. وقد يتجلى هذا التداخل في أعمال الحداثة التي تستكشف وعي الشخصيات وتركيبة الهوية الإنسانية بصورة أكثر تعقيدًا.

المحور الثاني عشر: الخاتمة والاستنتاجات العامة

من خلال هذه الدراسة المطوَّلة، يتضح أنّ العصر الرومانسي والعصر الفيكتوري يُمثِّلان مرحلتين أدبيتين بارزتين شكّلتا منعطفًا كبيرًا في تاريخ الأدب الإنجليزي خاصةً، والأدب الغربي عامةً. امتازت الرومانسية بالتركيز على العاطفة والخيال والطبيعة والذاتية، وجاءت كرد فعل على العقلانية والتنويرية. كما أعلت من شأن الفنان الفرد وحرية التعبير، وخلقت نصوصًا شعرية ونثرية رائعة فتحت آفاقًا جديدة للتجريب الأدبي.

وفي المقابل، رسم العصر الفيكتوري وجهًا آخر للأدب، إذ حمل هموم الطبقة العاملة وصراعات المجتمع الصناعي، وتجلّى في أعماله التحليل الاجتماعي والنقد الأخلاقي والواقعية في السرد. لذا كانت الرواية الفيكتورية بمثابة مرآة حقيقية للتحولات الثقافية والاقتصادية التي شهدتها إنجلترا في القرن التاسع عشر. ولم يلغِ الفيكتوريون النزعة الرومانسية كليةً، بل أعادوا تشكيلها بما يتوافق مع رؤية أكثر ارتباطًا بقضايا الإيمان والشك، والمعرفة العلمية، والإصلاح الاجتماعي.

يشير هذا التنوع إلى أنّ الأدب ما هو إلا كائن حي يتغيّر ويتشكّل تبعًا للظروف التاريخية والثقافية. فالخصائص الرومانسية لم تختفِ كليةً في العصر الفيكتوري، والسمات الواقعية والاجتماعية لدى الفيكتوريين كانت لها إرهاصاتها في كتابات أواخر الرومانسيين. وقد هيّأ هذا التفاعل الجدلي بين الرومانسية والفيكتورية الأرضية لتطوّر الحداثة وما بعدها، حيث وجدت مدارس أدبية لاحقة فرصة للانطلاق من هذا الزخم الفكري والفني الهائل.

وفي الختام، يمكن القول إنّ دراسة الفروق والتقاطعات بين العصر الرومانسي والعصر الفيكتوري تُسهم في إضاءة الجوانب التاريخية والفنية والفكرية لتطوّر الأدب العالمي، وتساعدنا على فهم أعمق لمراحل هذا التطوّر. كما تبيّن أنّ كل عصر لم يكن وليد لحظة تاريخية معزولة، بل جاء نتيجة تراكم الأفكار والأحداث، وانعكاسًا للتفاعلات الإنسانية التي لا تنضب.

قائمة المصادر والمراجع

• Abrams, M. H. (1971). The Mirror and the Lamp: Romantic Theory and the Critical Tradition. Oxford University Press.
• Bloom, Harold (Ed.). (1973). Romanticism and Consciousness: Essays in Criticism. W. W. Norton & Company.
• Butler, Marilyn. (1981). Romantics, Rebels and Reactionaries: English Literature and Its Background 1760-1830. Oxford University Press.
• Gill, Stephen. (1989). Wordsworth: A Life. Oxford University Press.
• Sanders, Andrew. (2000). The Short Oxford History of English Literature. Oxford University Press.
• Ford, Boris (Ed.). (1990). The New Pelican Guide to English Literature: From Dickens to Hardy. Penguin Books.
• Deirdre David (Ed.). (2012). The Cambridge Companion to the Victorian Novel. Cambridge University Press.
• Knoepflmacher, U. C. & Tennyson, G. B. (Eds.). (1977). Nature and the Victorian Imagination. University of California Press.
• Chesterton, G. K. (1906). Charles Dickens: A Critical Study. Dodd, Mead and Company.

يُلاحظ من هذه القائمة أنّ الدراسات النقدية والأكاديمية حول الرومانسية والعصر الفيكتوري تتناول جوانب متعددة: الفلسفة، السياق التاريخي، خصوصيات الأسلوب، النقد الاجتماعي، وغيرها. وهي تحاول – مجتمعةً – رسم صورة أكثر تكاملًا لهذين العصرين الأدبيين المهمّين في تاريخ الأدب العالمي.

ملخص

العصر الرومانسي هو فترة تاريخية في الأدب بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتميز بالتعبير عن المشاعر والخيال والشغف والطبيعة، والتركيز على الفرد وتجربته الشخصية.

أما العصر الفيكتوري، فهو الفترة التي تلا العصر الرومانسي، وتحمل اسم الملكة فيكتوريا التي حكمت بريطانيا من 1837 إلى 1901. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، يُعرف الفترة بالعصر الفيكتوري.

ويميز العصر الفيكتوري في الأدب الانتقال من التركيز على الفرد إلى التركيز على المجتمع والتغيرات الاجتماعية والثقافية. كما يتميز بالاهتمام بالواقعية والوصف التفصيلي والاستقراء العقلاني، بالإضافة إلى اهتمام الكتاب بالقضايا الاجتماعية والسياسية والدينية. وكانت العلاقات بين الجنسين، والصراعات الاجتماعية والصناعية، والاستعمار والإمبريالية من بين المواضيع الشائعة في الأدب الفيكتوري.