لماذا سمي يوم عرفة؟

لماذا سمي يوم عرفة بهذا الاسم

يوم عرفة من أعظم الأيام في الإسلام، وله منزلة رفيعة ومكانة متميزة في قلوب المسلمين، فهو اليوم الذي يقف فيه الحجاج بعرفة، أحد أعظم أركان الحج، بل هو الركن الأعظم الذي لا يتم الحج بدونه. وقد اختصه الله تعالى بفضائل كثيرة، من بينها مغفرة الذنوب، ومباهاة الله بعباده الواقفين بعرفة، وصيامه الذي يكفّر ذنوب سنتين. لكن هذا اليوم المهيب يحمل في اسمه دلالة غامضة وعميقة تستدعي البحث والتأمل: لماذا سُمّي يوم عرفة بهذا الاسم؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب التعمق في الجذور اللغوية والشرعية والتاريخية لهذا المصطلح، وفهم السياق الذي ارتبط به هذا اليوم في الشريعة الإسلامية.

المعنى اللغوي لكلمة “عرفة”

في اللغة العربية، كلمة “عرفة” مأخوذة من الجذر الثلاثي (ع ر ف)، والذي يحمل معاني متعددة تدور حول الإدراك والعلم والتعرّف والتمييز. ويقال: “عرف الشيء” أي أدركه وميّزه، و”تعارف القوم” أي تعرف بعضهم على بعض، و”عرفت الشيء” أي علمته. فالمعنى اللغوي يدور حول الإدراك والتعرف والتمييز، ما يعزز من رمزية هذا اليوم بأنه يوم معرفة، يوم إدراك، يوم لقاء روحي بين العبد وربه.

الأقوال الواردة في سبب التسمية

وقد وردت في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي عدة أقوال في سبب تسمية يوم عرفة بهذا الاسم، وهي أقوال تكمل بعضها البعض وتقدم أبعادًا دينية وتاريخية وروحية متداخلة، ومن أبرز هذه الأقوال:

1. أن آدم تعرف فيه على حواء

من الأقوال المشهورة أن سيدنا آدم عليه السلام التقى بالسيدة حواء في هذا الموضع بعد أن أهبطا من الجنة، وتعارفا فيه بعد طول فراق، فكان الموضع “عرفة” واليوم “يوم عرفة”، لأنه كان يوم اللقاء والتعارف من جديد. وقد أشار عدد من المفسرين إلى هذا القول، ويستند إلى روايات تراثية تقليدية تدل على أن جبل عرفة كان موقع التلاقي الأول بعد الهبوط من الجنة، مما يمنحه رمزية خاصة كبداية للمغفرة والرحمة والتلاقي الإنساني.

2. أن جبريل علّم إبراهيم المناسك فيه

ورد في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام لما نزل بسيدنا إبراهيم عليه السلام ليعلمه مناسك الحج، كان يريه كل موطن ويقول له: “أَعَرَفْتَ؟” فيقول إبراهيم: “عَرَفْتُ”، فلما انتهى إلى هذا الموضع قيل له: “عَرَفْتَ؟” فقال: “عَرَفْتُ”، فسُمّي ذلك الموضع “عرفة”، واليوم “يوم عرفة”. ويستدل بهذا القول على البعد التعليمي لهذا اليوم، بوصفه يوم التعرّف على الشعائر، والفهم الكامل لمعاني الطاعة والتعبد.

3. أن الناس يتعارفون فيه

ذهب بعض العلماء إلى أن هذا اليوم سُمّي “يوم عرفة” لأن الحجاج يتعارفون فيه، إذ يتجمع الناس من كل فج عميق، من مشارق الأرض ومغاربها، لا يجمعهم نسب ولا لون ولا لغة، بل توحيد الله وسنة نبيه، فيتعارفون ويتواصلون في مشهد عالمي فريد يعكس وحدة الأمة. ومن هذا المنطلق، أصبحت عرفة رمزًا للتقارب الإنساني والتواصل الديني.

4. أن الناس يعترفون فيه بذنوبهم ويتوبون

وهذا القول له أساس ديني وروحي قوي، فاليوم هو يوم الدعاء والتضرع، ويقف فيه الحجاج على صعيد عرفة يرفعون أكفهم إلى السماء باكين راجين المغفرة والرحمة، وهو اليوم الذي يباهي فيه الله ملائكته بعباده. فكان يوم “الاعتراف” بالخطيئة، ويوم “العرفان” لله بالنعمة، ويوم “التوبة” النصوح، ما جعله يوم “عرفة” بهذا المفهوم العميق.

الدلالات الروحية ليوم عرفة

الوقوف بعرفة ليس مجرد وقوف جسدي في صحراء أو على جبل، بل هو وقوف روحي عظيم، يمثل لحظة نادرة من الانقطاع عن الدنيا والتوجه الكامل إلى الله تعالى. هذا الوقوف يعدّ لحظة عرفانية من نوع فريد، يتجلى فيها الإيمان في أعلى مراتبه، ويلتقي فيه الزمان والمكان والدعاء والتوبة في صورة واحدة.

ففي هذا اليوم المبارك، تتجلى أبعاد اسم “عرفة” بكل معانيه:

• يوم عرفة هو يوم معرفة النفس ومراجعة الذات، حيث يقف الحاج متجردًا من الدنيا، لا يملك إلا ثوبه الأبيض وقلبه.

• هو يوم المعرفة بالله وبعظمته وجلاله، حيث يبتهل العبد إلى ربه معترفًا بذنوبه، طالبًا عفوه.

• هو يوم معرفة الهدف من الحياة، حيث يدرك الإنسان أن الدنيا زائلة وأن اللقاء الأكبر يوم القيامة.

الصعيد العرفي والمشهد الإنساني ليوم عرفة

من الجوانب التي تعزز من رمزية التسمية أن هذا اليوم يشهد أكبر تجمع إنساني سنوي على وجه الأرض، يتجمع فيه ملايين المسلمين في صعيد واحد، على قلب رجل واحد، يلبون بنداء واحد: “لبيك اللهم لبيك”. وهذا المشهد في حد ذاته تجلٍ لمعنى “عرفة” كمكان يعرف فيه الإنسان نفسه، ويعرف فيه الآخر، ويعرف فيه ربه.

إن وحدة الهيئة والموقف والمقصد في يوم عرفة تخلق حالة من المساواة التامة بين البشر، فلا غني ولا فقير، ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا عربي ولا أعجمي، بل كلهم يقفون متساوين أمام الله تعالى، يتعرفون على ضعفهم، ويتوسلون إلى الله برحمته. في هذا التجمع تتجلى روح العرفان والاعتراف، والتقوى والإخلاص.

فضل يوم عرفة في النصوص الشرعية

لقد جاء في الأحاديث النبوية الشريفة تعظيم كبير ليوم عرفة، فقد قال رسول الله ﷺ:

“ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة”

[رواه مسلم].

وفي حديث آخر:

“صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده”

[رواه مسلم].

ويكفي يوم عرفة شرفًا أنه اليوم الذي اكتمل فيه الدين، ونزل فيه قول الله تعالى:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا}

[سورة المائدة: 3].

جدول: ملخص لأهم الأقوال في سبب تسمية يوم عرفة

خاتمة تحليلية

تتعدد الأقوال في سبب تسمية يوم عرفة، وكلها تصب في إطار واحد من العظمة الروحية والمعرفية لهذا اليوم. سواء أكان التسمية تشير إلى معرفة العبد بربه، أو تعارف البشرية في موقع واحد، أو تعليم الشعائر، أو اعتراف الإنسان بتقصيره، فإن كل هذه المعاني تتلاقى لتكوّن صورة شاملة عن قدسية هذا اليوم. إنه يوم من أيام الله، تلتقي فيه الأرض بالسماء، والعبد بربه، والدنيا بالآخرة. يوم عرفة ليس مجرد يوم في التقويم، بل هو تجربة إيمانية متكاملة، تحمل في اسمها أسرارًا من المعاني التي تهز القلوب، وتبعث في الأرواح نسائم الرحمة والعودة إلى الله.

المراجع:

1. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة.

2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة.