14 تأثيراً للطلاق على سلوكيات الأطفال
يُعدّ الطلاق من أبرز التحولات التي قد تطرأ على كيان الأسرة، لما له من تبعات نفسية وسلوكية واجتماعية، لا تقتصر فقط على الزوجين، بل تمتد بعمق إلى الأطفال الذين غالباً ما يكونون الحلقة الأضعف في هذه المعادلة. تؤكد الدراسات النفسية والاجتماعية أن الطلاق يترك بصمات طويلة الأمد على شخصية الطفل وسلوكياته، وقد تؤثر على مساره الأكاديمي، وتكوينه العاطفي، واستقراره النفسي، وحتى نمط علاقاته المستقبلية. وتزداد تلك التأثيرات تعقيداً عندما يكون الطلاق مصحوباً بصراعات مستمرة، أو عندما يُستخدم الطفل كأداة للصراع بين الأبوين.
في هذا المقال، نستعرض أربعة عشر تأثيراً نفسياً وسلوكياً واجتماعياً متبايناً للطلاق على الأطفال، استناداً إلى ما توصلت إليه البحوث العلمية، والملاحظات الإكلينيكية، والتجارب الحياتية الموثقة.
1. فقدان الشعور بالأمان
يُعتبر فقدان الشعور بالأمان من أولى الانعكاسات النفسية للطلاق على الطفل. الأسرة هي الحاضنة الطبيعية التي تمنحه الإحساس بالثبات والاستقرار، وعندما تنهار هذه الوحدة بسبب الطلاق، يشعر الطفل أن الأرض تهتز تحت قدميه. يصبح العالم بالنسبة له أقل توقعاً وأكثر غموضاً، ما يولد لديه شعوراً بالقلق، ويؤثر على ثقته بالمستقبل.
في هذه المرحلة، قد يطور الطفل سلوكيات تجنّبية، أو رغبة في الانعزال، أو خوفاً مفرطاً من فقدان أحد الأبوين أو كليهما، وهو ما يُعرف في علم النفس بـ”قلق الانفصال”.
2. الميل إلى العدوانية
تُظهر العديد من الدراسات أن الأطفال الذين مرّوا بتجربة الطلاق، ولا سيما أولئك الذين عاشوا في ظل صراعات شديدة بين الوالدين، قد يميلون إلى السلوك العدواني تجاه أقرانهم أو أفراد الأسرة. العدوان هنا ليس مجرد عنف جسدي، بل يتجلى أحياناً في سلوكيات لفظية أو تخريبية أو تمردية.
السبب الجوهري يكمن في تفريغ الشحنات الانفعالية السلبية المكبوتة، مثل الغضب أو الإحباط أو الغيرة، على هيئة عدوان. ومن جهة أخرى، فإن غياب سلطة أبوية متوازنة بعد الطلاق، قد يفقد الطفل النموذج السلوكي الصحيح، مما يجعله عرضة لتبني أنماط تصرف غير سوية.
3. التراجع الأكاديمي
يُعد الأداء الدراسي مؤشراً واضحاً على الحالة النفسية للطفل. بعد الطلاق، تشير الأبحاث إلى تراجع في التركيز، وتدنٍ في التحصيل الأكاديمي، وزيادة احتمالية التغيب عن المدرسة، خاصة إذا كان الطلاق قد ترافق مع تغيرات بيئية مثل الانتقال إلى منزل جديد أو مدرسة جديدة.
هذا التدهور الأكاديمي لا يُعزى فقط إلى المشاعر النفسية السلبية، بل أيضاً إلى غياب المتابعة أو الدعم التربوي من أحد الأبوين أو كليهما، وانشغال الوالدين بحل قضاياهم القانونية أو الشخصية.
4. الانسحاب الاجتماعي
يميل كثير من الأطفال إلى الانسحاب من العلاقات الاجتماعية بعد طلاق والديهم، وخاصة إذا شعروا بالخجل من وضعهم الأسري الجديد، أو إذا تعرضوا للوصم أو الأسئلة المحرجة من الأقران. هذا الانسحاب لا يقتصر على العلاقات مع الأصدقاء، بل قد يشمل حتى الأقارب، أو الأنشطة الجماعية كالرياضة أو الرحلات المدرسية.
في بعض الحالات، قد يتحول الانسحاب إلى حالة شبه دائمة من العزلة، تُؤسس لاحقاً لمشاكل نفسية مثل الاكتئاب أو اضطراب القلق الاجتماعي.
5. الشعور بالذنب
من المظاهر النفسية العميقة التي ترافق الأطفال بعد الطلاق، شعورهم بأنهم السبب في تفكك الأسرة، خاصة إذا كانوا قد شهدوا شجارات بين الأبوين تتعلق بتربيتهم أو سلوكهم. في كثير من الحالات، لا يفصح الطفل عن هذا الإحساس، لكنه ينعكس على سلوكه، فيظهر في صورة توتر دائم، أو خضوع مفرط، أو اجترار ذاتي للأفكار السلبية.
هذا النوع من التفكير يؤدي إلى اهتزاز صورة الذات، وتولد ما يُعرف بـ”الذنب السام”، الذي يعيق نمو الطفل النفسي السليم.
6. ضعف الثقة بالنفس
تُعتبر الثقة بالنفس من الركائز الأساسية في بناء شخصية الطفل. وعندما يتعرض الطفل لحدث صادم كطلاق الوالدين، خاصة إذا صاحبته مشاعر هجر أو تهميش، تتآكل ثقته بذاته وقدراته. وقد يظهر ذلك في التردد الزائد، أو الشعور بعدم الجدارة، أو تجنّب التحديات.
الأطفال الذين يشهدون طلاقاً مريراً، يشعرون بأنهم غير مهمين في معادلة الحياة العائلية، وأن أصواتهم لا تُسمع، مما يدفعهم لتبني دور المتفرج السلبي بدلاً من الشريك الفعّال.
7. صعوبات في النوم
النوم هو أحد المؤشرات المهمة على التوازن النفسي لدى الأطفال. وقد أظهرت دراسات متعددة أن الأطفال الذين يمرون بتجربة الطلاق يعانون من اضطرابات في النوم مثل الأرق، أو الكوابيس، أو الاستيقاظ المتكرر. وترتبط هذه الحالات غالباً بالقلق، والخوف من المستقبل، أو التفكير المفرط في ما حدث.
كما أن التغير المفاجئ في الروتين اليومي أو الانتقال بين منزلَي الوالدين قد يُحدث خللاً في الإيقاع البيولوجي للطفل، ما يزيد من حدة هذه الاضطرابات.
8. تغيّرات في علاقة الطفل بالجنس الآخر
يتأثر الطفل كثيراً بكيفية تعامل الأبوين مع بعضهما أثناء الطلاق وبعده، ويشكل هذا التفاعل نموذجه المرجعي الأول للعلاقات العاطفية. فإذا كان الطلاق قد تخللته خيانة، أو عنف، أو احتقار، فقد ينشأ لدى الطفل تصور مشوّه عن الزواج أو الثقة في الجنس الآخر.
وفي مرحلة المراهقة، قد يظهر ذلك في صورة رفض لفكرة الارتباط، أو انجذاب مرضي إلى علاقات سامة، أو تكرار لنمط الصراع الذي كان سائداً بين الأبوين.
9. اضطرابات في الهوية
الأطفال، وخاصة في مرحلة ما قبل البلوغ والمراهقة، يكونون في طور بناء الهوية. والطلاق، بما فيه من خلل في الأدوار، وارتباك في المشاعر، قد يؤدي إلى تضارب في معايير السلوك، أو انحراف في الاتجاهات القيمية.
الطفل الذي يشعر بأنه منقسم بين بيتين، أو يُجبر على الانحياز إلى أحد الأبوين، قد يجد نفسه تائهاً في تحديد من هو فعلاً، وما هي المرجعيات التي سيبني عليها شخصيته وهويته المستقبلية.
10. تبني سلوكيات تعويضية
بعض الأطفال يسعون إلى تعويض الشعور بالفقد أو النقص العاطفي عبر سلوكيات مفرطة، كالإفراط في تناول الطعام، أو الإدمان على الألعاب الإلكترونية، أو محاولة لفت الانتباه عبر تصرفات متطرفة. وقد يتجه البعض إلى تبني دور البالغ داخل الأسرة، في محاولة لتحمل المسؤولية عوضاً عن الوالد الغائب أو المنفصل.
هذه السلوكيات، وإن بدت سطحياً غير مؤذية، إلا أنها قد تُخفي وراءها أزمات داخلية عميقة تتطلب تدخلاً نفسياً مبكراً.
11. الميل إلى الكذب أو الكتمان
نتيجة للضغوط النفسية التي يعيشها الطفل بعد الطلاق، يلجأ البعض إلى الكذب أو إخفاء الحقائق، لا سيما إذا كان يتنقل بين بيتين يحملان ثقافتين أو توقعات متناقضة. وقد يكذب الطفل لتفادي إثارة الغضب، أو لإرضاء أحد الأبوين، أو للحفاظ على مساحة من الاستقلال.
تكرار هذا السلوك يعزز انفصال الطفل عن ذاته الحقيقية، ويدخله في دوامة من التناقضات الشخصية.
12. تغيّر في الصورة الذهنية للوالدين
في بعض الحالات، يفقد الطفل صورته المثالية عن أحد الوالدين، خاصة إذا تم تشويه صورة الأب أو الأم من الطرف الآخر، أو إذا اكتشف خيانة أو عنفاً كان خفياً عنه. هذا التغير قد يولد صدمة معرفية، خصوصاً إذا كان النموذج الأبوي يمثل مرجعاً أخلاقياً وسلوكياً له.
كما أن شعور الطفل بأنه خُدع أو تم التلاعب به من قبل أحد الوالدين قد يؤدي إلى انهيار في الثقة، ليس فقط في أفراد الأسرة، بل في الآخرين عامة.
13. زيادة احتمالية الاضطرابات النفسية
تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين ينشأون في أسر مفككة هم أكثر عرضة لتطور اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، واضطرابات القلق، واضطرابات السلوك، واضطرابات الهوية الجنسية، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، وغيرها. وتتضاعف هذه الاحتمالية إذا لم يتلقَّ الطفل دعماً نفسياً أو اجتماعياً مناسباً بعد الطلاق.
14. تأثير طويل الأمد على علاقات الطفل المستقبلية
التجربة السلبية المرتبطة بالطلاق قد تبقى ماثلة في ذهن الطفل حتى بعد البلوغ، وتؤثر على قدرته على الدخول في علاقات صحية. بعض الأطفال يكبرون وهم يحملون خوفاً دائماً من الالتزام، أو شعوراً بأن العلاقات دائماً تنتهي بالفشل. وقد يكررون أنماط السلوك السامة التي شاهدوها في صغرهم، أو قد يتجنبون تماماً فكرة الزواج أو تأسيس أسرة.
هذه التأثيرات قد لا تظهر فوراً، بل تتبلور تدريجياً مع التجارب الحياتية، ما يستوجب عملاً وقائياً طويل الأمد.
خاتمة تحليلية
الطلاق، كظاهرة اجتماعية، لا يجب اختزاله في بعده القانوني أو العاطفي بين الزوجين، بل يجب النظر إليه بوصفه حدثاً نفسياً بنيوياً يؤثر على جميع أفراد الأسرة، خاصة الأطفال. ومع أن بعض الأطفال قد يخرجون من تجربة الطلاق بأقل قدر من الضرر، إلا أن الغالبية يحملون آثاراً سلوكية ونفسية طويلة الأمد.
المجتمع، عبر مؤسساته التربوية والاجتماعية، والأهل، عبر الوعي والإدراك، مطالبون جميعاً بتوفير بيئة صحية وداعمة تُخفف من وطأة هذه التجربة. فالأطفال ليسوا مجرد “ضحايا جانبيين” للطلاق، بل هم المتأثرون الأعمق، والمستقبل الذي يتشكل بصمت في ظل صخب الخلافات الأسرية.
المراجع:
-
Amato, P. R. (2000). The consequences of divorce for adults and children. Journal of Marriage and Family.
-
Kelly, J. B., & Emery, R. E. (2003). Children’s adjustment following divorce: Risk and resilience perspectives. Family Relations.
