حكمة تكرار آية الرحمن

الحكمة من تكرار آية “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” في سورة الرحمن

سورة الرحمن هي إحدى السور التي يتميز أسلوبها القرآني بعظمته وجماله، حيث تجمع بين التنوع البلاغي في التراكيب اللغوية والتكرار الذي يحمل في طياته معانٍ عميقة. من أبرز ما يلفت الانتباه في هذه السورة هو تكرار الآية “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ”، والتي وردت فيها 31 مرة، الأمر الذي يثير تساؤلات حول الحكمة من هذا التكرار، وكيف يعكس معاني عميقة تتعلق بقدرة الله تعالى ورحمته على الكون. سنسعى في هذا المقال إلى تحليل هذا التكرار واستخلاص الحكم التي يحملها.

1. سياق السورة وموضوعها

قبل التطرق إلى الحكمة من التكرار، من الضروري فهم سياق السورة التي وردت فيها هذه الآية. سورة الرحمن هي السورة رقم 55 في القرآن الكريم، وتعد من السور المكية التي تركز على التذكير بنعم الله تعالى على الإنسان والجن، وتحث على التأمل في مخلوقات الله التي تدل على عظمته وقدرته. وقد بدأت السورة بالحديث عن نعمة العلم الذي علمنا الله إياه، ثم توالت الآيات لتعدد نعمه المتنوعة التي لا تحصى، مثل نعمة البحر والأنهار، والمطر والنبات، والأرض والجبال. وقد تميزت هذه السورة بنمط من التكرار اللغوي الذي يذكر النعم ويختم بـ”فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” كدعوة للتفكر في هذه النعم.

2. التكرار كوسيلة للتركيز على المعنى

إن التكرار في القرآن الكريم ليس مجرد أسلوب بلاغي، بل يحمل بعدًا دينيًا وفكريًا عميقًا. وتكرار الآية “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” في سورة الرحمن يأتي في سياق تعدد النعم التي لا حصر لها، حيث تذكر الآيات نعمة بعد نعمة، ثم يأتي التكرار ليشدد على أهمية الإقرار بهذه النعم وعدم تكذيبها.

هذا التكرار يعمل على تركيز الانتباه على الحقيقة الأساسية التي لا ينبغي للإنسان أو الجني تكذيبها، وهي نعم الله التي لا تعد ولا تحصى. من خلال التكرار، يُحمل السامع أو القارئ على التفكير المستمر في هذه النعم والتفاعل معها بعين الرضا والشكر. إن تكرار الآية في هذا السياق يشير إلى أنه لا يمكن للإنسان أن يعدد النعم أو يدركها كلها، فكلما تأملنا في نعمة جديدة، نتذكر أن الله قد منحنا نعمة أخرى.

3. تكرار الآية كوسيلة لإيقاظ الضمير

إن التكرار في القرآن لا يقتصر فقط على الجانب البلاغي، بل يشمل أيضًا محاولة إيقاظ الضمير الإنساني. فالإنسان بطبيعته قد ينسى نعم الله عليه بسبب انشغاله بالحياة اليومية أو بسبب طغيان الدنيا على تفكيره. وتكرار هذه الآية المتكررة في السورة يعيد للقلب تذكيره المستمر بهذه النعم، ويجعله يستشعر عظمة الله في كل جانب من جوانب الحياة.

لقد ورد في تفسير العديد من العلماء أن التكرار هنا يعمل على تعزيز الوعي العقلي والوجداني، بحيث يجد الإنسان نفسه في حالة من التأمل المتواصل، مما يساعده على التوبة والرجوع إلى الله. ولذا فإن التكرار ليس مجرد تذكير للإنسان بوجود النعم، بل هو دعوة مستمرة للإنسان ليعي مقدار نعم الله عليه ويشكرها، وهذا من أهم مقاصد التكرار في القرآن الكريم.

4. تنوع النعم وتعددها

تتعدد النعم التي ذكرها الله في سورة الرحمن، وتتنوع بين نعمة الحياة، ونعمة الخلق، ونعمة الرزق، ونعمة الكون من البحر والجبال والشمس والقمر، وكلها دلالات على عظمة الله وإبداعه في الخلق. وقد جاء التكرار ليؤكد على هذه التعددية، فلا تقتصر النعم على جانب واحد، بل هي شاملة تشمل كل جزء من الحياة.

في هذا السياق، يشير التكرار إلى أن النعم غير محدودة ولا يمكن حصرها بكلمات أو عدد معين. مهما تعددت الوسائل التي نعدد بها نعم الله، لا يمكننا الإحاطة بها، وكلما حاولنا حصر النعم، نجد أن هناك المزيد مما لا نعلمه. هذا التكرار يحمل دعوة للإنسان لكي يكون أكثر تفهمًا واعترافًا بعظمة الخالق وتنوع عطائه.

5. التكرار كإشارة إلى مسؤولية الإنسان تجاه النعم

إن تكرار الآية “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” هو تذكير مستمر للإنسان بواجب الشكر على النعم التي منحه الله إياها. ففي الوقت الذي يذكر فيه القرآن نعم الله، تزداد المسؤولية على الإنسان في كيفية التعامل معها. فالله يعطي النعم ولا يأخذها، والإنسان مكلّف بالشكر عليها والتفاعل معها بما يرضي الله.

إن تكرار هذه الآية يعزز الوعي لدى القارئ بأن نعمة الله عليه لا تجلب له سوى المزيد من المسؤولية في كيفية استخدامها. فبدلاً من أن يستهلك الإنسان نعمة الله في معصية أو تكذيب، عليه أن يتوجه بالشكر والاعتراف بفضل الله عليه في كل لحظة.

6. التكرار وتأكيد مصير المكذبين

على الرغم من أن هذه الآية تتكرر في سياق الحديث عن النعم، فإنها تحمل أيضًا تحذيرًا ضمنيًا للمكذبين بنعم الله. فالله سبحانه وتعالى يذكّر بآياته العظيمة التي تكشف عن عظمة الله في الخلق، وتدعو الإنسان إلى التفكر في نعم الله عليه، وإذا لم يستجب الإنسان لهذه الدعوة، فإن مصيره سيكون الهلاك، كما ورد في الآيات التي تتبع التكرار مباشرة.

إن التكرار الذي جاء في سورة الرحمن ليس مجرد دعوة للإيمان بالنعمة، بل هو تذكير بأن من يكذب بها سيواجه عواقب وخيمة. وهو تذكير دائم للقلب المؤمن بأن نعمة الله لا يمكن تكذيبها أو تجاهلها.

7. التكرار كأسلوب قرآني للبلاغة والتأثير

التكرار في القرآن هو أسلوب بلاغي يعزز المعنى ويزيد من تأثير النص في النفس. فالتكرار ليس الهدف منه التعبير عن المعنى ذاته فقط، بل هو تعميق لهذا المعنى. ومن خلال تكرار “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ”، يترك القرآن أثراً أقوى في المتلقي، حيث يعيد إلى الذاكرة كل نعمة على حدة، ويجعلها أكثر وضوحًا في ذهنه.

إن أسلوب التكرار يُستخدم أحيانًا لشد الانتباه إلى ضرورة الاستجابة لهذا الكلام. التكرار هنا يعزز الوعي العقلي بالقوة الوجودية للآية. يعمق التأمل في النعم التي لا تعد ولا تحصى، ويجعل القلب في حالة استجابة دائمة للشكر.

خاتمة

تكرار آية “فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ” في سورة الرحمن يحمل في طياته العديد من المعاني العميقة التي تتعدى مجرد التذكير بالنعم. إنه دعوة للإنسان إلى التأمل المستمر في هذه النعم، والشكر لله عليها، والاعتراف بعظمته وقدرته. ومن خلال هذا التكرار، يُحث المؤمن على الاستجابة لهذا النداء وإثبات إيمانه بصدق، معترفًا بفضل الله، ومتجنبًا الكذب على نعمه. إن تكرار هذه الآية يتسق مع السياق القرآني العام الذي يدعو دائمًا إلى التفكر والتأمل في عظمة الخالق، مما يجعلها دعوة مفتوحة للتوبة والرجوع إلى الله، والإقرار بفضله ورحمته.