كيفية كتابة مشكلة البحث: دليل علمي شامل

تُعدّ مشكلة البحث هي العمود الفقري لأي دراسة علمية، إذ تمثل الانطلاقة الأساسية نحو بناء مشروع بحثي منهجي يسعى إلى تقديم معرفة جديدة أو حل لمعضلة قائمة. فلا يمكن للباحث أن يبدأ رحلته في البحث دون أن يحدد بوضوح الإشكالية التي يسعى إلى معالجتها. كتابة مشكلة البحث بشكل دقيق وواضح هو معيار رئيسي في تقييم جودة البحث العلمي، وهو ما يميز البحث الجاد عن غيره من الأعمال التي تفتقر إلى العمق والاتساق المنهجي. هذا المقال يقدم دراسة موسعة وشاملة حول مفهوم مشكلة البحث، أهميتها، خصائصها، ومراحل كتابتها بطريقة أكاديمية محكمة.

مفهوم مشكلة البحث

مشكلة البحث هي تساؤل أو مجموعة من التساؤلات المحددة التي يسعى الباحث إلى الإجابة عنها من خلال استخدام منهج علمي وأدوات بحث مناسبة. تنبع المشكلة عادة من فجوة معرفية، أو من ظاهرة لم تُفسر بشكل كافٍ، أو من تعارض في نتائج الدراسات السابقة. بمعنى آخر، مشكلة البحث هي التحدي المعرفي أو الواقعي الذي يحفز الباحث على الغوص في أعماق الموضوع لاكتشاف أبعاده المختلفة والوصول إلى حلول علمية دقيقة.

أهمية مشكلة البحث في المنهجية العلمية

تلعب مشكلة البحث دوراً محورياً في تحديد كافة مكونات البحث اللاحقة. فهي الأساس الذي تُبنى عليه الأهداف، وتُصاغ من خلاله الفرضيات أو الأسئلة البحثية، وتُختار وفقه أدوات جمع البيانات، ويتم على ضوئه تحليل النتائج. وتتجلى أهمية مشكلة البحث في النقاط التالية:

• توجيه البحث: تحدد الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه الباحث، وتمنع التشتت.

• ضبط المتغيرات: تساعد في حصر المتغيرات والعوامل التي تؤثر في الظاهرة المدروسة.

• تحقيق الأصالة: تُظهر مدى جدة البحث وأصالته من خلال تحديد إشكالية جديدة أو منظور مغاير لمشكلة قائمة.

• دعم القرارات البحثية: تؤثر في اختيار المنهج، وتصميم الأداة، وتحديد مجتمع البحث وعينته.

• تقديم مساهمة علمية: تعكس قيمة البحث من خلال محاولته الإجابة عن إشكالية حقيقية لها أثر علمي أو تطبيقي.

مصادر اشتقاق مشكلة البحث

لا تأتي مشكلة البحث بشكل عشوائي أو مفاجئ، بل تُستنبط من خلال مراجعة واعية وتحليل دقيق لمصادر متعددة، منها:

1. الدراسات السابقة: يُعدّ الاطلاع على الأبحاث المنشورة في نفس المجال خطوة أولى لفهم ما تم إنجازه وما زال بحاجة إلى بحث.

2. الخبرة الميدانية: يستمد الباحثون العاملون في الميدان مشكلاتهم من خلال ملاحظاتهم وممارساتهم اليومية.

3. التحليل النقدي للنظريات: قد تطرح النظريات العلمية إشكالات نظرية أو تطبيقية تحتاج إلى اختبار أو تطوير.

4. القضايا المجتمعية الراهنة: المشكلات المجتمعية أو الظواهر الجديدة تعتبر مصادر خصبة لاشتقاق مشكلات بحثية.

5. الفجوات المعرفية: تكشفها المراجعات المنهجية والتحليل الببليوغرافي لمجالات البحث المختلفة.

خصائص مشكلة البحث الجيدة

حتى تكون مشكلة البحث قوية، فعالة، وقابلة للدراسة، لا بد أن تتوفر فيها مجموعة من الخصائص المنهجية والعلمية، ومن أبرزها:

الفرق بين مشكلة البحث وأسئلة وفرضيات البحث

من الضروري التمييز بين مشكلة البحث من جهة، وأسئلة البحث أو فرضياته من جهة أخرى. فمشكلة البحث هي الإطار العام الذي تنبثق منه الفرضيات أو الأسئلة. وتُصاغ مشكلة البحث عادة على شكل فقرة تفسيرية تحتوي على عناصر الوصف والتحليل والتبرير. بينما تُصاغ الفرضيات كأسئلة محددة أو إجابات مبدئية قابلة للاختبار.

مراحل كتابة مشكلة البحث

لكتابة مشكلة بحثية متكاملة، يجب على الباحث اتباع خطوات متسلسلة تضمن التدرج المنطقي من التعميم إلى التخصيص، وتراعي معايير الكتابة الأكاديمية. وفيما يلي عرض تفصيلي لهذه المراحل:

1. تحديد المجال العام للبحث

البداية تكون باختيار حقل معرفي معين، مثل: علم الاجتماع، التربية، الاقتصاد، علوم الحاسوب، إلى غير ذلك. يجب أن يكون المجال مألوفاً للباحث وله فيه خلفية نظرية أو عملية كافية.

2. تحديد الظاهرة أو الموضوع المحدد

بعد حصر المجال، يتم الانتقال إلى تحديد ظاهرة أو موضوع معين داخل هذا الحقل، كالعنف المدرسي، البطالة بين الشباب، ضعف التحصيل الأكاديمي، أو اختراق الخصوصية الرقمية.

3. قراءة وتحليل الأدبيات السابقة

هذه المرحلة تشمل جمع الدراسات والمراجع ذات الصلة وتحليلها لتحديد ما يلي:

• مدى كثافة البحوث في الموضوع

• الفجوات التي لم يتم تناولها

• النقاط الخلافية أو المتناقضة

• المقاربات المختلفة لدراسة الموضوع

4. بلورة الإشكالية العامة

ينتج عن التحليل السابق صياغة إشكالية عامة للمشكلة، غالباً ما تُقدم كفقرة تمهيدية تصف الظاهرة، ثم تعرض الفجوة أو المعضلة، وتنتهي بالتبرير لضرورة دراسة المشكلة.

5. صياغة مشكلة البحث

تُكتب مشكلة البحث بصيغة تقريرية على شكل فقرة واحدة أو أكثر، تشمل العناصر التالية:

• وصف الظاهرة أو السياق

• إبراز الفجوة أو التحدي المعرفي

• توضيح سبب اختيار المشكلة

• الإشارة إلى الأثر المتوقع لمعالجة المشكلة

6. اختبار صلاحية المشكلة

يُعاد النظر في المشكلة وفق المعايير التالية:

• هل هي قابلة للبحث والتحليل؟

• هل تتناسب مع حجم البحث (ماجستير، دكتوراه، دراسة ميدانية…)؟

• هل تتوافر لها المراجع والأدبيات الكافية؟

• هل تُسهم فعلياً في تطوير المعرفة أو حل إشكال واقعي؟

نماذج لصياغة مشكلة البحث

النموذج الأول (في علم الاجتماع):

يشهد المجتمع العربي ارتفاعاً متزايداً في معدلات العنف الأسري، خاصة في الأوساط الحضرية، وهو ما تؤكده تقارير الجمعيات الحقوقية ومراكز الحماية الاجتماعية. ورغم تعدد الدراسات التي تناولت ظاهرة العنف، إلا أن الكثير منها ركّز على العوامل الفردية، مغفلاً البعد السوسيولوجي للظاهرة. من هنا، تنبع الحاجة إلى دراسة العوامل البنيوية التي تُعيد إنتاج العنف الأسري ضمن السياق الحضري العربي.

النموذج الثاني (في التعليم):

تعاني المدارس الحكومية في عدد من الدول العربية من تدهور متواصل في أداء الطلاب في مواد العلوم، رغم الجهود الإصلاحية التي أُطلقت خلال السنوات الماضية. وتشير نتائج الاختبارات الدولية إلى اتساع الفجوة بين طلاب المدارس الحكومية والخاصة. في ظل هذا الوضع، تبرز الحاجة إلى تحليل دور البيئة التعليمية والمناهج الدراسية وأساليب التدريس في تفسير هذا التراجع، مما يطرح مشكلة بحثية تستحق الدراسة.

أخطاء شائعة عند صياغة مشكلة البحث

1. العمومية الزائدة: من أكثر الأخطاء شيوعاً أن تكون المشكلة فضفاضة أو تشمل أكثر من إشكالية فرعية.

2. الغموض في اللغة: استخدام تعابير غير دقيقة يؤدي إلى تشويش في فهم المقصود.

3. الخلط بين المشكلة والأهداف: المشكلة تصف “ما هو موجود” بينما الأهداف تصف “ما يُراد تحقيقه”.

4. إغفال الخلفية النظرية: كتابة المشكلة دون ربطها بالإطار النظري يجعلها بلا أساس علمي.

5. عدم التبرير: عدم إيضاح سبب اختيار المشكلة يضعف من قوتها العلمية.

العلاقة بين مشكلة البحث ومكونات البحث الأخرى

تؤثر مشكلة البحث على جميع عناصر البحث الأخرى، كما في الجدول التالي:

الخاتمة

كتابة مشكلة البحث ليست مجرد إجراء شكلي أو تنظيمي، بل هي جوهر العملية البحثية ومحورها المركزي. يتطلب صياغتها فهماً عميقاً للمجال المعرفي، وقدرة على التحليل والتركيب، فضلاً عن مهارات لغوية وأكاديمية دقيقة. وكلما كانت المشكلة مُحكمة في صياغتها، واضحة في أبعادها، مدعومة بالأدلة والتبريرات، كانت نتائج البحث أكثر عمقاً ومصداقية. ولهذا، فإن الباحث الذي يولي العناية الكافية لبناء مشكلة بحثه، يكون قد قطع شوطاً كبيراً في بناء بحث علمي متكامل.

المراجع:

1. Creswell, J. W. (2014). Research Design: Qualitative, Quantitative, and Mixed Methods Approaches. SAGE Publications.

2. عبد الرحمن عدس (2004). أسس البحث العلمي: النظرية والتطبيق. دار المسيرة، عمّان.