كيف تؤثِّر المواد المخدرة في رؤيتنا للحياة؟

تُعدُّ المواد المخدرة من أخطر الظواهر التي ابتُلي بها الإنسان في العصور الحديثة، فهي لا تقتصر على الأضرار الجسدية فحسب، بل تمتد لتحدث تحولات عميقة في طريقة تفكير الفرد، وتصوراته للعالم من حوله، وقدرته على فهم ذاته والآخرين. إن تناول المخدرات يؤدي إلى تغييرات جوهرية في الإدراك والإحساس والانفعالات، وهذه التغييرات ليست لحظية أو مؤقتة فقط، بل قد تكون تراكمية ودائمة، لتحدث تشويهاً واسع النطاق في الرؤية الشخصية للعالم، وفي قدرة الإنسان على إدراك المعاني الجوهرية للحياة، وتحديد الأهداف، وبناء العلاقات، واتخاذ القرارات.

أولاً: التأثير الكيميائي على الدماغ ووظائفه

الدماغ البشري معقد للغاية ويعتمد في عمله على توازن دقيق بين مختلف المواد الكيميائية العصبية، مثل الدوبامين، السيروتونين، النورأدرينالين، والغلوتامات. عندما يدخل المخدر إلى الجسم، يقوم بتعطيل هذا التوازن، ويحفز إفرازاً غير طبيعي للناقلات العصبية، ما يؤدي إلى نشوة مؤقتة أو إحساس زائف بالراحة والسعادة. لكن هذا التأثير المؤقت يأتي بثمن باهظ، إذ تبدأ وظائف الدماغ الطبيعية في التدهور.

فمثلاً، الكوكايين يعمل على زيادة تركيز الدوبامين بشكل غير طبيعي، مما يولد شعوراً مفرطاً بالنشوة والقدرة، إلا أن الاستخدام المتكرر يؤدي إلى تبلد عاطفي، وانخفاض الحافز الداخلي، وفقدان الاهتمام بالأمور التي كانت تُعد مهمة سابقاً. هذا الانحراف الكيميائي يضعف قدرة الشخص على الاستمتاع بالحياة بشكل طبيعي، ويُحدث تغيراً جوهرياً في طريقته لرؤية الأشياء من حوله.

ثانياً: تشويه إدراك الواقع والذاكرة والانفعالات

المواد المخدرة تؤثر على الإدراك الحسي وتخلق حالة من الانفصال عن الواقع، وهي حالة توصف في بعض الحالات بالـ “التحليق” أو “الهروب من الواقع”. هذا الانفصال يمكن أن يكون مؤقتاً خلال تأثير المادة، إلا أن الاستمرار في التعاطي يؤدي إلى اضطرابات مستمرة في الإدراك، منها الهلوسات، وعدم القدرة على تمييز الواقع من الخيال، وتشوهات في تفسير المواقف والأحداث.

أما على صعيد الذاكرة، فإن العديد من المخدرات مثل الكحول والهيروين تتسبب في إضعاف الذاكرة القصيرة والطويلة المدى. يفقد الشخص القدرة على تذكّر تفاصيل مهمة من حياته، مما يؤدي إلى صعوبة في الربط بين الأحداث والخبرات، ويقلل من قدرته على التعلم من التجارب السابقة. هذا الانقطاع في تسلسل الذاكرة يخلق نوعاً من فقدان الهوية الذاتية.

وفيما يتعلق بالانفعالات، فإن تعاطي المخدرات يؤدي إلى اضطراب في الاستجابات الانفعالية الطبيعية، فقد تصبح استجابات الفرد مبالغ فيها أو باهتة، ويفقد الشعور بالتعاطف، ويتراجع لديه الشعور بالذنب أو المسؤولية. هذا التغير الانفعالي يؤثر مباشرة في طريقة رؤيته للحياة، إذ تصبح مشاعره غير متزنة، مما يؤثر سلباً على قراراته وعلاقاته بالآخرين.

ثالثاً: اضطراب العلاقة مع الذات

عندما يتكرر تعاطي المخدرات، تبدأ العلاقة بين الإنسان وذاته في التدهور. فالمخدر يتحول إلى أداة للهروب من الألم أو مواجهة الضغوط، ويستبدل الإنسان طريق النمو الذاتي بالاعتماد المزيف على المادة. يبدأ الشخص في تبرير أفعاله، ويقل تقديره لذاته، ويشعر بالاغتراب عن شخصيته الأصلية. تفقد القيم معناها، وتتآكل المبادئ، وتُهمّش الطموحات.

يصبح التفكير متمحوراً حول تأمين الجرعة التالية، ويتحول السلوك إلى نمط من الإدمان القهري الذي يختزل الحياة في دائرة مفرغة من اللذة المؤقتة والندم المستمر. هذا الانفصال عن الذات يؤدي إلى فقدان الهوية، والعيش في فراغ وجودي يجعل الشخص غير قادر على إيجاد معنى لحياته، وهو ما يزيد من احتمال الوقوع في الاكتئاب والانتحار.

رابعاً: تدمير القدرة على بناء علاقات إنسانية صحية

العلاقات الاجتماعية تتطلب قدراً كبيراً من الوعي بالذات، والتفهم للآخر، والانفعالات المتزنة، وكل هذه العناصر تتعرض للتدمير بفعل تعاطي المواد المخدرة. يفقد المدمن القدرة على الالتزام، ويصبح أنانياً في سلوكه، ويتسبب في أذى للآخرين دون إدراك حقيقي لعواقب أفعاله. كما أن علاقاته تصبح سطحية، قائمة إما على المصلحة أو على الشراكة في التعاطي، وتفقد الأبعاد العاطفية والعقلية العميقة.

كذلك، فإن الثقة بينه وبين الآخرين تتآكل، ويغلب على علاقاته طابع الكذب والخداع والمراوغة. هذه الحالة تضع المدمن في عزلة اجتماعية، وتعمّق شعوره بالوحدة والانفصال، وهو ما يعيد تغذية السلوك الإدماني في حلقة مغلقة من الألم النفسي.

خامساً: الانحراف القيمي والتغير في المفاهيم الحياتية

المواد المخدرة لا تقتصر على التأثير البيولوجي، بل تزرع مجموعة من المفاهيم المشوهة حول معنى الحياة، النجاح، السعادة، والموت. فمثلاً، يتحول مفهوم “الراحة” إلى لحظة من فقدان الشعور بالواقع، و”الحرية” إلى غياب الضوابط، و”النجاح” إلى تفادي الألم بدل مواجهته. كما أن العديد من المدمنين يطورون فلسفة زائفة لتبرير الإدمان، معتبرين أن المخدرات تساعدهم على “رؤية الحقيقة” أو “التواصل مع الذات الداخلية”، في حين أنها تُعزز الإنكار والانسحاب من الواقع.

هذا التحول في المفاهيم يؤدي إلى تشويه البوصلة الأخلاقية للفرد، ويجعل من السهل عليه تجاوز الحدود التي كان يراها في السابق غير مقبولة، سواء على المستوى الديني، الاجتماعي، أو الإنساني. وهذا الانحراف يؤدي في النهاية إلى العزوف عن السعي لتحسين الذات أو تطوير الحياة.

سادساً: الانزلاق نحو الاضطرابات النفسية العميقة

الربط بين تعاطي المخدرات وظهور اضطرابات نفسية أمر تؤكده الدراسات النفسية والسريرية الحديثة. فالمخدرات قد تُحفّز أو تُسرّع من ظهور اضطرابات مثل الفصام، الاضطراب ثنائي القطب، اضطراب الشخصية الحدّية، واضطرابات القلق. وما يزيد الطين بلة أن هذه الاضطرابات تجعل الرؤية للحياة أكثر تشوهاً، وتزيد من مشاعر العجز واللاجدوى.

ففي حالات الفصام، مثلاً، يكون الفرد غير قادر على التفرقة بين الحقيقة والوهم، ويعيش في واقع بديل مشوّه بالكامل، مما يضعه في حالة من الانفصال الحاد عن الآخرين. أما في حالات الاكتئاب المصاحب للإدمان، فتصبح نظرة الإنسان للحياة سوداوية تماماً، ويغلب عليه الإحساس بعدم القيمة وفقدان الأمل، ما يزيد من مخاطر الانتحار أو العنف الذاتي.

سابعاً: فقدان القدرة على اتخاذ قرارات رشيدة

تعاطي المواد المخدرة يضعف الفص الجبهي للدماغ، وهو الجزء المسؤول عن التفكير المنطقي، والتخطيط، والتقييم، واتخاذ القرار. نتيجة لذلك، يفقد المدمن القدرة على تحليل العواقب، ويصبح سلوكه اندفاعياً ومتهوراً، مما ينعكس على قرارات مصيرية في حياته مثل العمل، الزواج، العلاقات الاجتماعية، وحتى البقاء أو الانسحاب من مواقف خطيرة.

يفقد الشخص القدرة على وزن الخيارات بعقلانية، ويميل إلى اختيار الطرق السهلة ولو كانت مدمرة، وهو ما يجعله في نهاية المطاف ضحية لقرارات خاطئة لا يمكن التراجع عنها بسهولة. هذا النوع من العمى العقلي يسهم في تفاقم معاناته، ويعمّق الفجوة بينه وبين الواقع.

جدول: أبرز التأثيرات النفسية والسلوكية للمخدرات على رؤية الإنسان للحياة