في عالم يتسم بالتسارع والضغوط الاجتماعية والمهنية المستمرة، تصبح القدرة على وضع حدود شخصية واضحة ضرورة ملحة للحفاظ على الصحة النفسية والعاطفية. الجزء الثاني من هذا المقال يهدف إلى استكمال ما بدأناه في الجزء الأول، حيث نستعرض بعمق خمس طرق إضافية لوضع حدودك بأدب، وكيفية تطبيقها في جوانب مختلفة من حياتك كالعلاقات، العمل، الحياة الأسرية، والتفاعل الرقمي، بأسلوب يحترم الآخرين ويعزز من تقدير الذات.
أولاً: استخدم عبارات “أنا” لتحديد الحدود
استخدام العبارات التي تبدأ بـ”أنا” بدلاً من “أنت” له تأثير كبير في إيصال الرسالة بشكل غير هجومي، مما يساعد على وضع حدود دون إحداث صدام. فعلى سبيل المثال، بدلاً من قول “أنت تتدخل في حياتي”، يمكن استبدالها بـ”أنا أشعر بعدم الراحة عندما يُطلب مني مشاركة تفاصيل شخصية في كل مرة”.
يساعد هذا النوع من التواصل على توضيح ما تريده دون أن يشعر الطرف الآخر بأنه ملام أو متهم، مما يسهم في الحفاظ على العلاقة ويمنحك المساحة التي تحتاجها.
ثانياً: كن حازماً مع الحفاظ على الاحترام
الحزم لا يعني العدوانية، بل يعني التعبير عن احتياجاتك ورغباتك بوضوح مع احترام مشاعر واحتياجات الآخرين. هذا التوازن هو جوهر وضع الحدود بأدب. على سبيل المثال، إذا كنت لا تستطيع تلبية طلب معين من أحد الأصدقاء، يمكن أن تقول: “أقدّر أنك فكرت بي، لكن في الوقت الحالي لا يمكنني مساعدتك بسبب التزاماتي”.
الحزم ينقذك من الوقوع في فخ الاستنزاف الذاتي، ويجعلك شخصاً واضحاً ومتسقاً في تعاملاتك اليومية، مما يعزز من احترام الآخرين لك.
ثالثاً: تعلّم قول “لا” دون شعور بالذنب
كثيرون يجدون صعوبة في قول “لا”، خاصة في البيئات التي يُربط فيها القبول الاجتماعي بالموافقة المستمرة. إلا أن قول “لا” هو مهارة حيوية. يمكنك قول “لا” بطريقة مهذبة ولكن حاسمة، مثل: “أعتذر، لا أستطيع الانضمام اليوم لأنني بحاجة لوقت خاص بي”.
التخلص من الشعور بالذنب المصاحب للرفض يتطلب تدريباً نفسياً مستمراً، عبر تذكير الذات بأنك لست مسؤولاً عن تلبية جميع توقعات الآخرين على حساب راحتك واحتياجاتك.
رابعاً: حدد أوقاتاً خاصة بك ولا تتنازل عنها
واحدة من أكثر الوسائل فاعلية في وضع الحدود هي تخصيص أوقات محددة لنفسك وعدم السماح لأحد بانتهاكها. سواء كان ذلك وقتاً للراحة، أو للقراءة، أو لممارسة هواية، فإن هذا الوقت يجب أن يُعامل على أنه مقدّس.
لتحقيق ذلك، من المفيد إعلام الآخرين بهذا الوقت مسبقاً. يمكنك مثلاً إعلام زملائك بأنك لن تكون متاحاً بين الساعة 7 و8 مساءً لأنه وقت مخصص لعائلتك. هذا التصريح لا يُعد أنانية بل هو احترام لصحتك النفسية واحتياجاتك الشخصية.
خامساً: احمِ حدودك الرقمية
في عصر أصبحت فيه الرسائل الفورية ووسائل التواصل الاجتماعي جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، أصبحت الحدود الرقمية ضرورة. من المهم وضع قوانين واضحة لنفسك وللآخرين، مثل عدم الرد على الرسائل بعد ساعة معينة، أو تخصيص وقت معين لتصفح الهاتف.
إيقاف الإشعارات، وتحديد الأشخاص الذين يمكنهم الوصول إليك في أوقات معينة، واستخدام خاصية “عدم الإزعاج” كلها أدوات تساعدك في هذا السياق. في حال تم تجاوز هذه الحدود، يمكن الرد بلطف لكن بحزم: “أقدر تواصلك، ولكن أحتاج إلى عدم استخدام هاتفي في هذه الفترة للاسترخاء”.
تطبيق الحدود في مجالات الحياة المختلفة
1. في العلاقات الشخصية
وضع الحدود في العلاقات العاطفية أو الصداقات يقي من التطفل، والتعلق الزائد، والتداخل غير الصحي. يجب توضيح ما هو مقبول وما هو غير مقبول، مثل عدد اللقاءات الأسبوعية أو تفاصيل يجب مشاركتها. العلاقات الصحية تتطلب توازناً بين المشاركة والاستقلالية.
2. في الحياة الأسرية
العائلة، رغم أهميتها، يمكن أن تكون مصدر ضغط نفسي إذا لم توضع حدود واضحة. سواء كان الأمر يتعلق بخصوصيتك في المنزل أو بطريقة تربية أطفالك، من المهم أن تكون حازماً في التعبير عن خصوصياتك دون التسبب في صدامات.
مثلاً، من حقك أن تطلب عدم التدخل في قراراتك الأسرية الخاصة، ويمكن توضيح ذلك بعبارات من قبيل: “أحترم رأيك، لكني بحاجة لاتخاذ هذا القرار بمفردي”.
3. في العمل
العمل من أكثر المجالات التي تحتاج إلى حدود واضحة. كثيرون يقعون في فخ العمل لساعات إضافية أو قبول مهام خارج نطاق مسؤولياتهم بسبب عدم القدرة على الرفض. ضع ساعات عمل محددة والتزم بها، واحرص على عدم الرد على المكالمات أو الرسائل المهنية خارج تلك الأوقات.
في حال طُلب منك أمر يتجاوز مهامك، من المناسب أن تقول: “أحتاج إلى مراجعة جدولي الحالي قبل قبول مهام إضافية”.
4. في العلاقات الاجتماعية العامة
هناك حدود يجب أن تُرسم مع الغرباء أو المعارف السطحية، مثل احترام المساحة الشخصية، وعدم التطفل في الأحاديث، والامتناع عن الأسئلة الخاصة. يجب أن تكون مستعداً لرفض الدخول في مناقشات لا ترغب بها دون الإحساس بالخجل.
اللباقة هنا تعني استخدام لغة هادئة ومحترمة، مثل: “أفضل عدم التحدث عن هذا الموضوع الآن”.
5. في الحياة الرقمية والشخصية الداخلية
مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، يجب تحديد متى وأين وكيف تستخدم الأجهزة الذكية. كذلك، يجب احترام المساحة الداخلية للفرد: أفكاره، مشاعره، وأهدافه الخاصة. لا تسمح لأحد بأن يُملي عليك كيف تفكر أو ما تشعر به.
جدول يوضح أمثلة لحدود مهذبة في مواقف مختلفة:
| الموقف | الحد المهذب |
|---|---|
| زميل يطلب عمل إضافي متكرر | “حالياً لدي مهام كثيرة، لن أتمكن من المساعدة هذه المرة” |
| صديق يطلب لقاء في وقت خاص | “هذا الوقت مخصص لراحتي، فلنحدد موعداً آخر يناسبنا” |
| فرد من العائلة يتدخل كثيراً | “أحترم رأيك، ولكن أحتاج إلى أن أتخذ قراراتي بنفسي” |
| مكالمات ليلية متكررة | “أفضل عدم استقبال مكالمات بعد الساعة 9 مساءً” |
| طلب مشاركة تفاصيل شخصية | “أفضل الاحتفاظ بهذه المعلومات لنفسي الآن” |
خلاصة
وضع الحدود لا يعني الانفصال عن الآخرين أو الانعزال، بل هو شكل من أشكال العناية بالنفس، والاحترام المتبادل، والقدرة على التواصل الناضج. عندما يتم وضع الحدود بشكل واضح ومهذب، تصبح علاقاتنا أكثر صحة، وتوازننا النفسي أكثر استقراراً، ونكون أقرب إلى أنفسنا الحقيقية. فالحياة المتزنة تبدأ من وضوح الداخل وتنظيم الخارج.
المصادر:
-
Cloud, H., & Townsend, J. (1992). Boundaries: When to Say Yes, How to Say No to Take Control of Your Life. Zondervan.
-
Brown, B. (2010). The Gifts of Imperfection. Hazelden Publishing.
-
American Psychological Association. Setting Boundaries. https://www.apa.org/news/press/releases/stress/2021/boundaries-tips
-
Harvard Business Review. How to Set Boundaries at Work. https://hbr.org/2021/01/how-to-set-boundaries-at-work
