مغالطة الوصول وتأثيرها في سعادتنا
تُعدُّ السعادة من أكثر المفاهيم التي يسعى الإنسان لتحقيقها طوال حياته، وهي الهدف الذي يطمح لتحقيقه معظم الناس في مجتمعاتهم المختلفة. ومع تقدم الأبحاث النفسية والفلسفية حول السعادة، بدأنا ندرك أن الطريق إلى السعادة ليس مرهونا فقط بالظروف الخارجية أو بالإنجازات التي نحققها، بل يرتبط أيضًا بكيفية تفكيرنا وتحليلنا للأحداث والظروف التي نعيش فيها. من بين المفاهيم النفسية التي تؤثر في تفكيرنا وتأثيرها على سعادتنا هو ما يُعرف بـ”مغالطة الوصول” (Arrival Fallacy).
تعريف مغالطة الوصول
تشير “مغالطة الوصول” إلى اعتقاد الناس بأنهم سيشعرون بالسعادة التامة أو الاكتمال بمجرد تحقيق هدف معين أو الوصول إلى مرحلة في حياتهم. تتخذ هذه المغالطة شكلًا من الأمل الكاذب الذي يقود الشخص للاعتقاد بأن السعادة هي في النهاية، في نقطة الوصول، في المكان الذي يرغب في أن يكون فيه أو عند الحصول على شيء معين.
بعبارة أخرى، هي التصور الذي يقول: “عندما أصل إلى هذا المكان أو عندما أحقق هذا الهدف، عندها سأكون سعيدًا”. على الرغم من أن السعي وراء الأهداف هو جزء أساسي من حياة الإنسان، فإن الاعتقاد بأن الهدف النهائي هو ما سيجلب لنا السعادة هو مفهوم خاطئ قد يؤدي إلى خيبة أمل كبيرة.
كيف تتشكل مغالطة الوصول؟
تتأثر مغالطة الوصول بعدة عوامل نفسية وثقافية، وتعد هذه المغالطة جزءًا من الطريقة التي يُنشأ بها تصورنا عن النجاح والسعادة في المجتمع. في العصر الحديث، يشهد الناس بشكل مستمر رسائل ثقافية تعزز فكرة أن الحصول على شيء مادي أو بلوغ هدف معين سيجلب لهم السعادة. هذه الرسائل تأتي من الإعلانات التجارية، والمجلات، ومنصات التواصل الاجتماعي، وغيرها من الوسائل التي تروج لصور مغلوطة عن الحياة المثالية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون تجربة طفولة الشخص هي المصدر الأول لتكوين هذا الاعتقاد. ففي كثير من الأحيان، يربط الأطفال بين الحصول على مكافآت أو أهداف معينة وبين مشاعر الفرح والسعادة، مما يرسخ لديهم الفكرة بأن الوصول إلى مرحلة معينة من الحياة أو الحصول على ما يريدونه سيمنحهم شعورًا دائمًا بالرضا.
تأثير مغالطة الوصول في السعادة
يؤثر الاعتقاد في مغالطة الوصول بشكل مباشر على سعادتنا الشخصية، حيث أن العديد من الأشخاص يظلون في حالة من الترقب المستمر للأوقات التي سيصلون فيها إلى هدف معين، معتقدين أن هذا الهدف هو السبيل الوحيد لتحقيق الرضا الداخلي. ومع الوصول إلى هذا الهدف، يجد البعض أنفسهم خاليين من السعادة التي كانوا يتوقعونها.
1. الضغوط الزائدة والسعي المستمر
من الآثار الجانبية لمغالطة الوصول هي الضغط الزائد الذي يضعه الشخص على نفسه لتحقيق الهدف، وبالتالي يؤدي هذا الضغط إلى التوتر والإرهاق. في هذه الحالة، يصبح الشخص محاصرًا في فكرة أن النجاح يعني السعادة، وهو ما يخلق حلقة مفرغة لا تنتهي من السعي وراء الأهداف، بغض النظر عن التكاليف النفسية والجسدية التي قد يعاني منها.
2. اللامبالاة بعد الوصول
عندما يحقق الشخص هدفه الذي طالما حلم به، فإنه غالبًا ما يشعر بحالة من الفراغ أو اللامبالاة. ويُفسر هذا بشكل جزئي بأن السعادة التي كان يتوقعها لا تأتي كما كان يأمل، مما يتركه في حالة من الشعور بالخيبة. هذا الشعور من اللامبالاة يمكن أن يكون مدمرًا، لأنه يؤدي إلى البحث عن هدف جديد يعتقد أنه سيجلب السعادة، مما يعيد الشخص إلى نفس الدورة المستمرة.
3. الانفصال عن اللحظة الحالية
واحدة من العواقب النفسية لمغالطة الوصول هي أن الشخص يصبح غارقًا في المستقبل، ولا يستطيع أن يعيش اللحظة الحالية. التفكير في ما سيحدث في المستقبل من تحقيق الأهداف والرغبات يبعده عن الاستمتاع بالتجارب الحالية التي قد تكون ممتعة وذات قيمة. وبالتالي، يعاني الشخص من نوع من الانفصال عن واقعه ويعيش في انتظار “اللحظة القادمة” التي يُعتقد أنها ستحقق له السعادة.
4. السعي وراء المعايير الاجتماعية
العديد من الأشخاص يعتمدون على معايير اجتماعية تحدد لهم ما يجب أن يحققوه ليشعروا بالنجاح. قد يكون ذلك في شكل منصب معين، أو امتلاك نوع من الممتلكات، أو الترقية في العمل، أو حتى الحصول على إعجاب الآخرين. في هذا السياق، تكون السعادة مشروطة بتحقيق هذه المعايير المتفق عليها اجتماعيًا، والتي في كثير من الأحيان تكون بعيدة عن أهداف الشخص الحقيقية أو القيم التي تخصه.
التصحيح العقلاني: العيش في اللحظة
لكي يتمكن الشخص من تجاوز مغالطة الوصول وتجنب تأثيراتها السلبية على سعادته، يجب أن يبدأ في تطوير وعي أكبر بمفهوم السعادة. إذ يجب أن يدرك أن السعادة لا تأتي فقط من الوصول إلى هدف معين، بل هي حالة ذهنية تتشكل من التفاعل مع الحياة في كل لحظة.
1. التركيز على العملية وليس النتيجة
من الضروري أن يوجه الشخص انتباهه إلى الاستمتاع بالرحلة نحو الهدف، وليس فقط في الوصول إلى النهاية. ينبغي أن يدرك أن كل خطوة في الطريق لها قيمة وجمال خاص بها. على سبيل المثال، إذا كان الهدف هو فقدان الوزن، فإن السعادة قد لا تأتي فقط من تحقيق رقم معين على الميزان، بل من الالتزام بنمط حياة صحي والشعور بالتحسن بشكل تدريجي في الصحة والطاقة.
2. التقدير للأشياء الصغيرة
يمكن للشخص أن يجد سعادته في الأشياء اليومية البسيطة التي ربما يغفل عنها. قراءة كتاب مفضل، التمتع بوجبة لذيذة، أو الاستماع إلى الموسيقى قد تكون كلها لحظات سعادة بسيطة قد نغفل عنها عندما نركز فقط على أهداف بعيدة.
3. إعادة تقييم الأهداف الشخصية
يجب أن يراجع الشخص أهدافه بشكل دوري ويتأكد من أنها تتماشى مع قيمه الشخصية. فإذا كانت الأهداف مدفوعة فقط بالضغوط الاجتماعية أو التوقعات المفرطة، فقد لا تؤدي إلى السعادة الحقيقية. على الشخص أن يسعى وراء أهداف تشعره بالرضا الداخلي، وليس فقط تلبية معايير خارجية.
الختام
إن مغالطة الوصول قد تؤثر بشكل كبير على سعادتنا إذا لم نكن واعين لكيفية تأثيرها على تفكيرنا. إن السعي المستمر وراء “الهدف النهائي” قد يمنعنا من الاستمتاع بالحياة في اللحظة الحالية. ولكن إذا تمكنا من تغيير هذا التصور والتركيز على العملية واللحظات الصغيرة في الحياة، يمكن أن نجد السعادة في كل لحظة، بغض النظر عن الهدف الذي نصل إليه.
