أفقر مدينة في العالم، كيبيرا، كينيا، الفقر المدقع، الأحياء العشوائية، التهميش الحضري، التنمية المستدامة، أفريقيا جنوب الصحراء

كيبيرا: أفقر مدينة في العالم وأزمة الفقر الحضري المستفحلة

تُعد كيبيرا، الواقعة على أطراف العاصمة الكينية نيروبي، من أكثر المناطق الحضرية التي تجسّد معاناة الفقر المدقع في العالم، وغالباً ما توصف بأنها أفقر “مدينة” أو حي غير رسمي على مستوى الكوكب. ورغم أن كيبيرا من الناحية القانونية ليست مدينة مستقلة بل حيًّا عشوائيًا كبيرًا، فإنها من حيث الكثافة السكانية، والاقتصاد المحلي الهش، ومستوى الخدمات المتدهور، تشكل نموذجًا مكثفًا للفقر الحضري المعاصر، في ظل التمدد العمراني غير المنظم والعجز التنموي. يعيش في كيبيرا ما بين 250,000 إلى مليون نسمة في ظروف معيشية توصف بأنها غير إنسانية، وهو ما جعلها مادة دراسية متكررة في أبحاث الجغرافيا الحضرية والتنمية المستدامة.

الجذور التاريخية للفقر في كيبيرا

نشأت كيبيرا في بدايات القرن العشرين كمستوطنة عسكرية مخصصة للجنود السودانيين الذين خدموا في الجيش البريطاني خلال فترة الاستعمار. بعد حصول كينيا على استقلالها، لم تُدمج هذه المنطقة بشكل كامل في الخريطة الرسمية للتخطيط الحضري لنيروبي، ما أدى إلى نموها العشوائي دون إشراف حكومي حقيقي. وقد ساهم هذا التجاهل الرسمي في ترسيخ بنية تحتية هشة وقابلة للانهيار، جعلت من كيبيرا مرتعًا للفقر والتهميش الاجتماعي والسياسي.

التركيبة السكانية والاجتماعية

يعيش معظم سكان كيبيرا في مساكن مؤقتة مبنية من الطين والمعدن والخشب، وتفتقر الغالبية إلى شبكات صرف صحي، أو مياه شرب نظيفة، أو خدمات كهربائية مستقرة. كما أن معظم الأسر تتكوّن من عدد كبير من الأفراد، يعيشون في غرفة واحدة أو غرفتين على الأكثر، ما يزيد من معدلات انتشار الأمراض وانتقال العدوى. يعاني السكان من نقص شديد في التغذية والرعاية الصحية، إلى جانب نسبة مرتفعة من البطالة، والفقر المدقع الذي يقل فيه دخل الفرد اليومي عن دولار أمريكي واحد.

الوضع الاقتصادي في كيبيرا

الأنشطة الاقتصادية في كيبيرا تقتصر في الغالب على القطاع غير الرسمي، مثل بيع السلع المستعملة، والمأكولات المحلية، أو تقديم خدمات بسيطة لا تحتاج إلى تأهيل مهني. نسبة كبيرة من السكان تعتمد على أعمال هامشية غير منتظمة، ولا توجد بنية اقتصادية مستقرة أو موارد إنتاجية حقيقية داخل المنطقة. كما أن غياب التمويل والدعم الحكومي أو الاستثماري يؤدي إلى استمرار حالة الركود الاقتصادي المزمن. في الوقت نفسه، تُستخدم كيبيرا كمصدر للعمالة الرخيصة في نيروبي، لكنها لا تحصل على مقابل تنموي عادل من هذا الدور.

البنية التحتية والخدمات الأساسية

لا تتوفر في كيبيرا شبكات صرف صحي منظمة، وتعتمد الكثير من العائلات على “المراحيض الطائرة”، وهي أكياس بلاستيكية تُستخدم لقضاء الحاجة ثم تُلقى في الشوارع أو المستنقعات المجاورة. كما أن نظام جمع النفايات شبه معدوم، ما يؤدي إلى تراكم القمامة وانتشار الأمراض المزمنة مثل الكوليرا، والتيفوئيد، والتهابات الجلد. الوصول إلى التعليم محدود، إذ تُدار معظم المدارس بشكل تطوعي وبتمويل ضئيل، ولا تقدم سوى الحد الأدنى من المناهج التعليمية. كذلك، يعاني النظام الصحي من نقص في المعدات والأدوية، إضافة إلى ضعف الكوادر الطبية.

التحديات الأمنية والاجتماعية

تعد كيبيرا بيئة خصبة للجريمة نتيجة للبطالة المنتشرة، وانعدام العدالة الاجتماعية، والفراغ المؤسساتي. تشهد المنطقة حوادث متكررة من السرقة، والاعتداء، واستغلال القُصَّر، فضلًا عن انتشار عصابات الشوارع وتجارة المخدرات. ويُعد العنف الجنسي من أخطر التهديدات التي تواجه النساء والفتيات في كيبيرا، حيث تسجل تقارير المنظمات غير الحكومية معدلات مرتفعة من حالات الاغتصاب والتحرش، معظمها لا يُبلغ عنه بسبب الخوف أو العار أو غياب الثقة في المؤسسات القضائية.

التعليم كوسيلة للنهوض

رغم البيئة القاسية، يمثل التعليم أحد أعمدة الأمل لسكان كيبيرا. توجد مبادرات أهلية ومنظمات غير ربحية تعمل على توفير فرص تعليمية للأطفال والفتيات على وجه الخصوص، باعتبار أن التعليم هو الأداة الوحيدة القادرة على كسر دائرة الفقر المتوارثة. إلا أن التحديات تبقى جسيمة، بسبب نقص التمويل، والبيئة المحيطة غير المواتية، والتسرب المدرسي بسبب الحاجة إلى العمل في سن مبكرة.

جدول مقارنة الفقر في كيبيرا ومدن أخرى فقيرة

الأثر البيئي للفقر في كيبيرا

تؤدي الظروف غير الصحية في كيبيرا إلى تأثيرات بيئية كارثية. فالتخلص العشوائي من النفايات، وتسرّب المياه العادمة، واستخدام الخشب والفحم للطهي، كلها عناصر تؤثر على جودة الهواء والمياه، وتزيد من تلوث التربة والهواء. كما أن المناطق المحيطة بكيبيرا، بما في ذلك نهر نغونغ القريب، تتعرض لتدهور بيئي مستمر بفعل النشاطات العشوائية غير المنضبطة.

المبادرات الحكومية والدولية

شهدت كيبيرا محاولات متعددة من قبل الحكومة الكينية بالتعاون مع شركاء دوليين مثل برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat)، لإعادة تأهيل الحي عبر مشاريع بناء وحدات سكنية، وتحسين البنية التحتية. إلا أن هذه المبادرات غالبًا ما تصطدم بمعوقات مثل الفساد الإداري، وضعف التنسيق، ومعارضة بعض السكان الذين يخشون من التهجير القسري أو فقدان سبل رزقهم في حال تم نقلهم.

النساء والفقر في كيبيرا

تعاني النساء في كيبيرا من وطأة مضاعفة للفقر بسبب التمييز القائم على النوع، وغياب الحماية القانونية، وانخفاض فرص التعليم والعمل. تتعرض العديد من النساء للعنف المنزلي والاستغلال الجنسي، في ظل غياب منظومة دعم اجتماعي أو صحي. ومع ذلك، تشهد كيبيرا مبادرات نسائية مميزة مثل التعاونيات النسوية ومشاريع ريادة الأعمال الصغيرة التي تسعى لتمكين النساء اقتصاديًا وتوفير فرص كريمة للعمل.

الصحة النفسية في بيئة معدومة الكرامة

من الجوانب التي نادرًا ما يتم تسليط الضوء عليها في كيبيرا، معاناة السكان من مشاكل صحية نفسية مزمنة مثل الاكتئاب، والقلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، الناتجة عن العنف، والفقر، وفقدان الأمل في المستقبل. لكن غالبية العيادات لا تقدم خدمات للصحة النفسية، وتُعتبر هذه المواضيع من المحرمات الاجتماعية في المجتمع المحلي، ما يزيد من صعوبة الحصول على المساعدة.

آفاق المستقبل والتنمية المستدامة

يبقى مستقبل كيبيرا معلقًا بين الحاجة إلى تدخلات جذرية شاملة، واستمرارية الواقع الحالي. التنمية المستدامة في كيبيرا تتطلب إعادة تصميم شامل للبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمنطقة، يتضمن إدماجها الكامل في المخططات الحضرية لنيروبي، وضمان حق السكان في السكن اللائق، والوصول إلى الخدمات، والعدالة الاجتماعية. الاستثمار في التعليم، وتحسين البنية التحتية، ومكافحة الفساد، هي أولويات لا غنى عنها لأي خطة تنموية فعالة.

المصادر

1. United Nations Human Settlements Programme (UN-Habitat). “The State of African Cities Report.” 2022.

2. Amnesty International. “Kenya: The Unseen Majority – Nairobi’s Two Million Slum-Dwellers.” 2021.