قصة قاتل ربع العالم

قاتل ربع العالم

شهدت كتب التاريخ الإسلامي والإسرائيليات والتفاسير الإسلامية العديد من الروايات التي تُنقل عن شخصيات فريدة في أثرها وبصمتها في ذاكرة الحضارات. ومن بين هذه الشخصيات يبرز اسم “قابيل” باعتباره أول قاتل في تاريخ البشرية، والذي وُصف في بعض الروايات بأنه “قاتل ربع العالم”. وهو وصف رمزي يحمل في طياته بعداً دلالياً عميقاً يستحق التوقف عنده وتحليله. هذا المقال يستعرض أبعاد هذه الرواية، ويحللها من منظور ديني وتاريخي وعقلي، ويُفصّل السياق الذي نُسب فيه هذا اللقب.

المعنى الرمزي لعبارة “قاتل ربع العالم”

العبارة لا تُفهم بمعناها الحرفي فقط، وإنما تتطلب فهماً رمزياً لواقع البشرية في بداية الخليقة. وُصِف قابيل بأنه “قاتل ربع العالم” لأنه قتل أخاه هابيل في وقت كان فيه عدد سكان الأرض أربعة فقط بحسب ما تفيده الروايات: آدم، حواء، قابيل، وهابيل. وعليه، فإن قتل قابيل لأخيه يعني، من حيث النسبة العددية، إزهاق روح تمثل 25% من عدد سكان الأرض آنذاك، أي “ربع العالم”.

القصة كما وردت في القرآن الكريم

وردت قصة قابيل وهابيل في سورة المائدة، حيث قال الله تعالى:

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27]

وتُشير الآيات إلى أن قابيل قتل أخاه بدافع الحسد والغيرة بعد أن تقبّل الله قربان هابيل ورفض قربانه. وهو بذلك ارتكب أول جريمة قتل عرفها الإنسان على الأرض، وقد وصف القرآن هذا الفعل بأشد العبارات في قوله:

﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 30]

أصل التسمية بين النص والدلالة

يُعتبر مصطلح “قاتل ربع العالم” من العبارات المتداولة في كتب المفسرين، خصوصاً في تفسير ابن كثير وغيره، وهو ليس من القرآن أو الحديث النبوي المباشر، بل مأخوذ من السياق العقلي والعددي للواقعة. ويُستند في هذا التوصيف إلى أن عدد البشر وقت الجريمة لم يتجاوز الأربعة أو الستة، مما يجعل قتل شخص منهم جريمة تُعادل قتل نسبة كبيرة من العالم في ذلك الحين. وقد ورد في تفسير القرطبي وابن كثير وغيرهم أن قابيل بذلك سُنَّ سُنة القتل، وكان أول من سنّ القتل بين البشر، وأنه يتحمّل وزر كل دم يُراق ظلماً بعده إلى قيام الساعة.

البعد النفسي والاجتماعي للجريمة

قتل قابيل لهابيل لم يكن مجرد حادثة فردية، بل شكل تحولاً محورياً في المسار الإنساني. إذ دخلت الإنسانية منذ ذلك الحين في عهد العنف، وأُعلن ميلاد الظلم الإنساني. وتُعتبر هذه الجريمة أول تجلٍ للصراع بين الحسد والعدل، بين الطاعة والتمرد، بين الحق والنفس الأمارة بالسوء.

وقد أشار العلماء المسلمون إلى أن سبب القتل كان الغيرة والحسد، وهما من أشد الأمراض النفسية التي تؤدي إلى انهيار القيم. قال تعالى على لسان هابيل:

﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا۠ بِبَاسِطٍۢ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّىٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَـٰلَمِينَ﴾ [المائدة: 28]

الجدول التحليلي لمقارنة بين قابيل وهابيل

مكان وزمان وقوع الجريمة

لا يوجد نص قرآني أو حديث نبوي يحدد مكان وقوع الجريمة بدقة، إلا أن بعض الروايات تشير إلى أنها وقعت في منطقة قريبة من مكة أو في بلاد الشام. أما عن التوقيت، فتقع الجريمة في وقت مبكر جداً من تاريخ البشرية، أي في حياة آدم عليه السلام، مما يجعلها الحدث المؤسس لفكرة الجريمة والجزاء في الحياة البشرية.

أثر الجريمة على الشرائع السماوية

جريمة قابيل لم تكن معزولة، بل شكّلت قاعدة في الشرائع الإلهية اللاحقة حول تحريم القتل وبيان خطورته. وقد جاء في القرآن:

﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَـٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۭا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًۭا﴾ [المائدة: 32]

وهذا النص يشير إلى أن القتل الفردي يُعامل كجريمة ضد الإنسانية جمعاء، تأكيداً لخطورة ما فعله قابيل.

دلالات في الفقه الإسلامي

قصة قابيل وهابيل تُستخدم كثيراً في الفقه الإسلامي كنموذج تأسيسي لما يُعرف بجريمة القتل العمد. ويُفصّل الفقهاء أنواع القتل (العمد، شبه العمد، الخطأ)، وتُعتبر جريمة قابيل قتل عمد متعمد لا يُبرَّر. ولهذا يُحمّل الشرع مرتكب القتل العمد مسؤولية أخلاقية وجنائية كاملة.

مسؤولية قابيل الأخلاقية والدينية

الروايات الإسلامية تُجمع على أن قابيل بعد ارتكابه الجريمة قد ندم ندمًا شديدًا، لكنه لم يستطع التوبة الصادقة، إذ لم تكن لديه المعرفة الكافية بدفن الموتى. وقد بعث الله غراباً ليُعلّمه كيف يواري سوءة أخيه:

﴿فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًۭا يَبْحَثُ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ [المائدة: 31]

وهو درس رمزي عن كيف أن الحيوان الذي لا يملك العقل قد دلّ الإنسان على ما يجب فعله، في إشارة إلى انحدار الإنسان عندما تسيطر عليه الغرائز السلبية.

في الفكر الأخلاقي والحضاري

يمثل قابيل رمزاً للصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان عندما تغلبه رغباته على عقله وقيمه. وهو مثال حيّ لكيف يمكن للفرد أن ينحرف عن الفطرة السليمة نتيجة ضعف الإيمان، وطغيان الأهواء. ومقابل قابيل هناك هابيل، الذي ظل متمسكاً بالتقوى، حتى وهو يواجه الموت ظل يقول: “إني أخاف الله”.

خلاصات مفاهيمية:

• “قاتل ربع العالم” هو وصف رمزي يعكس حجم الجريمة نسبةً لعدد سكان الأرض آنذاك.

• قابيل هو أول من سنّ سنة القتل، وسيتحمل إثم كل جريمة قتل ظلماً.

• الجريمة وقعت بدافع الغيرة والحسد، مما يدل على خطورة هذه الأمراض النفسية في المجتمعات.

• وردت القصة في القرآن بوضوح، دون ذكر الأسماء، ولكن جاءت الأسماء في كتب التفسير.

• تمثل القصة أول نموذج في الصراع الأخلاقي بين النفس الأمارة بالسوء والنفس التقية.

المراجع

• تفسير ابن كثير، دار طيبة، الطبعة الرابعة.

• تفسير القرطبي، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية.