مفهوم القدر المحتوم

القدر المحتوم

يمثل مفهوم القدر المحتوم أحد أعمدة الفلسفة الدينية والوجودية التي ناقشتها البشرية منذ أقدم العصور، وهو مبدأ يرتبط بالعقيدة والإيمان والتفسير الغيبي لمسار الأحداث والوقائع في حياة الإنسان. وقد احتل هذا المفهوم موقعًا مركزيًا في الموروث الإسلامي، حيث يتجلى من خلال الإيمان المطلق بأن كل ما يحدث في الكون، سواء كان خيرًا أو شرًا، هو بقضاء الله وقدره، وفق مشيئته وعلمه الأزلي. لكن ما يجعل الحديث عن “القدر المحتوم” أكثر عمقًا، هو تداخله مع قضايا حرية الإرادة، المسؤولية، الأخلاق، وموقع الإنسان في هذا الكون.

في هذا المقال المطول، سيتم التطرق إلى مفهوم القدر المحتوم في القرآن والسنة، والفروقات بين أنواعه، وتفسيره عند علماء العقيدة، وكذلك ما يتعلق بعلاقته بالحرية الإنسانية، وانعكاساته على الفكر والسلوك، بالإضافة إلى عرضه في إطار مقارن مع الفكر الفلسفي والديني العالمي.

أولًا: تعريف القدر المحتوم

القدر في اللغة مأخوذ من مادة (ق-د-ر)، ويعني التقدير والإحكام والتصرف وفق علم وحكمة. أما في الاصطلاح الشرعي، فهو علم الله الأزلي بما سيكون، وكتابته لذلك في اللوح المحفوظ، ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء وفق علمه وتقديره.

ويأتي “القدر المحتوم” ليشير إلى القسم من القضاء والقدر الذي لا يتغير ولا يتبدل، وهو الذي قضاه الله وحكم به حكمًا نهائيًا، لا يقبل المحو أو التغيير. وهذا النوع من القدر هو الذي جاء ذكره في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى:

﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ [الحديد: 22].

ثانيًا: مراتب الإيمان بالقدر

أجمع علماء العقيدة الإسلامية على أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، وله مراتب أربع لا يتم الإيمان الكامل به إلا بتحقيقها جميعًا:

1. العلم: الإيمان بأن الله يعلم كل شيء، ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.

2. الكتابة: أن الله كتب في اللوح المحفوظ كل ما هو كائن إلى يوم القيامة.

3. المشيئة: أن كل ما يقع فهو بإرادة الله ومشيئته، لا يخرج شيء عن قدره.

4. الخلق: أن الله خالق كل شيء، بما في ذلك أفعال العباد.

وهذه المراتب تفضي إلى تصور شامل للقدر، بحيث لا يتصور خروج أي أمر عن علم الله وتقديره، ما يجعل من “القدر المحتوم” تجليًا لأعلى مراتب هذا الإيمان.

ثالثًا: أنواع القدر

القدر في العقيدة الإسلامية لا يُفهم على نحو أحادي أو قاطع من حيث كونه لا يتغير، بل يقسم العلماء القدر إلى قسمين أساسيين:

فهذا النوع الثاني -القدر المعلق- هو الذي يمكن أن يطرأ عليه تغيير وفق الأسباب التي يسرها الله، كالدعاء وصلة الرحم والعمل الصالح، مما يؤكد أن الله سبحانه وتعالى جمع بين القدر وسننه الكونية، فلا تعارض بين القضاء وبين الأسباب.

رابعًا: الفرق بين القضاء والقدر

كثيرًا ما يقع الخلط بين مفهومي القضاء والقدر، رغم أن بينهما تمييزًا دقيقًا عند علماء العقيدة:

• القدر: هو التقدير الأزلي الشامل لكل شيء، قبل أن يقع.

• القضاء: هو تنفيذ ذلك التقدير عند وقوعه.

بمعنى آخر، القدر هو العلم والتقدير، أما القضاء فهو الحكم والتنفيذ، وكلاهما داخل في علم الله المحيط.

خامسًا: القدر المحتوم والإرادة الحرة

من أبرز الإشكالات الفكرية التي يثيرها مفهوم القدر المحتوم، هو مدى تأثيره على حرية الإنسان وإرادته. فهل الإنسان مجبر على أفعاله لأنه مكتوب عليه كل شيء؟ أم أن له إرادة حرة في نطاق ما أراده الله له؟

العقيدة الإسلامية تعتمد مبدأ “الاختيار ضمن القدر”، أي أن الإنسان مخير في أفعاله ضمن علم الله السابق ومشيئته. فالعبد يفعل باختياره، والله يعلم ذلك مسبقًا وقد كتبه. قال تعالى:

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]، أي بيّنا له طريق الخير والشر، فاختياره مسؤول عنه.

ومن هنا يتضح أن القدر لا يسلب العبد حريته، بل يضعها في إطار منضبط يجعل من العدل الإلهي قاعدة في الحساب والثواب والعقاب، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

سادسًا: الحكمة من القدر المحتوم

الاعتقاد بالقدر المحتوم يحمل في طياته حكمًا عظيمة لا تحصى، منها:

• تهذيب النفس: إذ يعلم المؤمن أن كل ما يصيبه هو بقدر الله، فيرضى ولا يجزع.

• الثقة بالله: فمعرفة أن كل شيء مقدر يمنح الإنسان طمأنينة وقوة نفسية.

• تحقيق التوازن: يمنع الإغترار بالنجاح أو السقوط في اليأس، لأن كل شيء بقدر.

• البعد عن الحقد: لأن من يؤمن بالقدر لا يحسد ولا يلوم الناس، بل يرجع الأمور إلى تدبير الله.

سابعًا: القدر في نصوص القرآن والسنة

ورد ذكر القدر في عشرات المواضع في الكتاب والسنة، ومنها:

• قول الله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]

• وقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38]

• ومن السنة: قول النبي ﷺ: «آمنتُ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه» (رواه مسلم).

وهذه النصوص تثبت على نحو قاطع شمول القدر لجميع ما يقع، ولا يخرج منه شيء، لا في السراء ولا في الضراء.

ثامنًا: أقوال العلماء في القدر المحتوم

تناول علماء أهل السنة والجماعة قضية القدر بتفصيل دقيق. قال الإمام أحمد بن حنبل: “القدر قدرة الله، فمن لم يؤمن بالقدر، فقد كفر”. وقال الإمام الطحاوي في عقيدته: “خلق كل شيء بقدر، وقدر أقدارًا لا تتغير ولا تتبدل”.

ويؤكد العلماء أن كل ما وقع، فهو وفق علم الله وتقديره، لكن لا تعارض بين كون الإنسان مسؤولًا عن فعله وبين علم الله السابق به. بل إن حكمة الله اقتضت أن يمنح الإنسان عقلًا وإرادة، ثم يُحاسب على أساس ذلك.

تاسعًا: مقارنة مع الفكر الفلسفي والديني

عند مقارنة مفهوم القدر في الإسلام مع أديان وفلسفات أخرى، نلاحظ:

• في المسيحية، هناك جدل واسع حول “النعمة المطلقة” و”الاختيار الإلهي”، وظهرت أفكار الجبرية في بعض المذاهب كالكالفينية.

• في الهندوسية، يُعرف القدر بمفهوم “الكارما”، وهو قانون السبب والنتيجة المرتبط بالأعمال في الحياة الحالية والسابقة.

• في الفلسفة اليونانية، اعتُبر القدر قوة عمياء تحكم الوجود، ولا يمكن الهروب منها، كما في كتابات أرسطو والرواقيين.

• أما في الفكر الوجودي الحديث، فتم نفي وجود القدر المطلق، واعتُبر الإنسان “محكوم عليه بالحرية”، كما يرى جان بول سارتر.

يتميز المنظور الإسلامي بتوازنه بين القدر والاختيار، فلا هو جبر مطلق ولا تفويض مطلق، بل هو موقف وسطي يقوم على عدل الله وعلمه.

عاشرًا: أثر الإيمان بالقدر المحتوم في سلوك الفرد والمجتمع

للإيمان بالقدر تأثير بالغ على سلوك الإنسان والمجتمع بأسره:

• الصبر والرضا: فالمؤمن بالقدر لا ينهار في وجه المصائب.

• العمل والإتقان: لا يمنع الإيمان بالقدر من الأخذ بالأسباب والسعي في طلب الرزق والعلم.

• البعد عن التشاؤم: لأن من يؤمن بالقدر يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه.

• تعزيز الإيجابية: فبدلًا من اللوم المستمر على الحوادث، يكون تركيزه على كيفية التعامل معها.

المصادر والمراجع

• ابن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية.

• ابن تيمية، الفتاوى الكبرى.

العنوان المناسب لهذا المقال:

القدر المحتوم في الإسلام