تفضيل الله بين عباده

بما فضل الله بعضهم على بعض

خلق الله تعالى الإنسان وكرّمه على سائر المخلوقات، وجعله خليفته في الأرض، ومن سنن الله الثابتة في الكون أنه سبحانه وتعالى فاضل بين الناس في الرزق، والعلم، والجمال، والقوة، والمكانة، والوظيفة، والصحة، وغير ذلك من النعم والخصائص التي تختلف من فرد إلى آخر ومن أمة إلى أخرى. وقد وردت هذه الحقيقة في آياتٍ متعددة من القرآن الكريم، ومن أبرزها قول الله تعالى في سورة النحل:

﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ [النحل: 71]، وقوله في سورة النساء: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ﴾ [النساء: 32].

هذا التفضيل الإلهي ليس عبثًا أو ظلما، بل هو لحكمة ربانية دقيقة تتصل بسير نظام الحياة وتوازن العلاقات الاجتماعية، وبناء المجتمعات على أسس التعاون والتكامل والتخصص. فلو تساوى الناس في كل شيء، لاختل نظام الكون، وتعطلت المصالح، وفقدت الحياة معناها ومقوماتها.

مفهوم التفضيل في ضوء الشريعة

التفضيل في الشريعة الإسلامية لا يعني الأفضلية المطلقة من حيث الكرامة الإنسانية أو القيمة الذاتية، فالناس سواسية عند الله في الأصل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: 70]، ولكن التفاوت في المواهب والخصائص هو جزء من التقدير الإلهي لحكمة أرادها الله. والتفاضل الحقيقي عند الله تعالى لا يكون إلا بالتقوى، كما قال سبحانه:

﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

أوجه التفضيل بين الناس

1. التفضيل في الرزق

التفاوت في الرزق من أكثر مظاهر التفضيل وضوحاً في حياة الناس. فبعضهم يملك الأموال والعقارات، وآخرون يعملون في وظائف بسيطة، وآخرون فقراء لا يجدون قوت يومهم. لكن هذا التفاوت لا يعني الأفضلية المطلقة لأحد، بل هو ابتلاء واختبار، والغني مطالب بالشكر والإنفاق، والفقير بالصبر والتوكل.

وقد ذكر القرآن هذا التفاوت بصيغة تقريرية:

﴿اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ [النحل: 71].

والهدف من ذلك هو قيام التبادل الاقتصادي، وتحقيق التوازن الاجتماعي، ودفع الناس إلى العمل والتكافل.

2. التفضيل في العلم والفهم

العلم من أعظم أسباب الرفعة والفضل، قال الله تعالى:

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].

وقد فضّل الله بعض عباده بالعلم، ومنحهم قدرات عقلية ومهارات معرفية، وجعلهم مرجعًا للناس في أمور دينهم ودنياهم، وهذا الفضل يترتب عليه مسؤولية كبيرة تتمثل في نشر العلم وتعليمه والعمل به.

3. التفضيل في الخلق والخلقة

الله تعالى خلق الناس بأشكال مختلفة، منهم الطويل والقصير، والجميل والأقل جمالًا، والقوي والضعيف، وكل ذلك لحكمة أرادها الله، وليس للإنسان دخل في هذا الجانب. وقد يُفتن البعض بالجمال أو القوة أو القَبول الاجتماعي، بينما يُبتلى آخرون بالنقص أو العجز، وكلٌّ يُمتحن في ما أعطاه الله.

4. التفضيل في النسب والمكانة الاجتماعية

هناك تفاوت واضح بين الناس من حيث النسب والقبائل والانتماءات العائلية والمكانات الاجتماعية، وهذه كلها لا ترفع من قدر الإنسان عند الله إلا إذا اقترنت بالتقوى والعمل الصالح. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

“من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه” [رواه مسلم].

5. التفضيل في الوظائف والمهام

قد يفضل الله أحدًا بأن يكون قائدًا أو حاكمًا أو مديرًا، بينما يكون غيره تابعًا أو موظفًا أو عاملاً بسيطًا، وكلٌّ ميسر لما خلق له. ومن المهم أن يعرف كل إنسان مكانته ويؤدي دوره بإتقان، فصلاح المجتمع لا يكون إلا بتكامل الأدوار.

حكمة التفضيل الإلهي

أولًا: تحقيق التوازن الاجتماعي

لو تساوى الناس في القدرات والخصائص لما احتاج أحد إلى الآخر، ولما نشأت العلاقات الإنسانية والمجتمعية، كالتاجر والمزارع والعالم والطبيب. التفاوت يخلق الحاجة المتبادلة ويؤسس لبنية اجتماعية متكاملة تقوم على التعاون لا التنافس.

ثانيًا: ابتلاء وتمحيص

التفضيل امتحان من الله للعبد، الغني يُبتلى بالمال، والعالم بالعلم، والقوي بالقوة، ليرى الله كيف يتصرف الإنسان: هل يشكر أم يطغى، هل يتواضع أم يتكبر. وكذلك الفقير والمحروم يُمتحن في صبره وثقته بالله.

ثالثًا: دافع للعمل والاجتهاد

لو علم الإنسان أن كل ما يناله هو بتقدير الله، وأن التفضيل ليس دائمًا، وأنه قد يرتقي بالجد والاجتهاد، فإنه سيبذل جهده للوصول إلى المراتب العليا، سواء في العلم أو العمل أو التقوى.

رابعًا: إشاعة قيم التكافل والتراحم

وجود التفاوت يحفز الأغنياء على مساعدة الفقراء، والعلماء على تعليم الجهال، وأصحاب النفوذ على نصرة الضعفاء. وهكذا تتشكل مجتمعات يسودها التراحم والتكافل والتعاون.

ضوابط شرعية في التعامل مع التفضيل

• عدم الحسد: نهى الإسلام عن تمني زوال النعمة عن الآخرين، وأمر بالقناعة والتطلع الإيجابي.

• عدم التكبر: على المفضّل ألا يتكبر ولا يزهو بما أعطاه الله، لأن النعم زائلة، والتفضيل ليس بأيدينا.

• استعمال الفضل في طاعة الله: من أنعم الله عليه بنعمة، وجب عليه استخدامها في الخير، ليحقق شكرها ويزيده الله منها.

• الرضا بالقسمة: على المؤمن أن يرضى بما قسمه الله له، وأن يتوكل عليه ويطلب المزيد بالحلال.

العلاقة بين التفضيل والعدالة الإلهية

قد يتساءل البعض: كيف يكون التفضيل عدلًا؟ والجواب أن التفضيل لا يناقض العدالة، لأن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، أما التفضيل فهو منح زائد لحكمة. والناس جميعهم أمام الله سواء في التكليف والثواب والعقاب، والاختلافات التي نراها ليست ظلماً، بل وسيلة لاختبار الإنسان وتمييز الصالح من الطالح.

التفضيل في القرآن الكريم وأثره في البناء الحضاري

استثمر الإسلام هذه السنة الكونية – سنة التفضيل – في بناء حضارة متكاملة، فجعل من التفاضل وسيلة لتنمية المجتمع، لا أداة للتمييز أو الطبقية. فعندما أقر الإسلام بالتفاوت في الأرزاق والقدرات، لم يُلغِ العدالة، بل نظّم العلاقات وجعل لكل فرد موقعًا يستطيع أن يبدع فيه.

جدول يوضح أوجه التفضيل ومقاصده

أثر التفضيل في سلوك الأفراد والمجتمعات

إن فهم الإنسان لحقيقة التفضيل الإلهي يجعله أكثر قناعة واستقرارًا نفسيًا، وأبعد عن المقارنة السلبية أو الطمع أو الحسد. كما يدفعه إلى تقدير الآخرين واحترام الفروق الفردية، والتعامل بتواضع وتسامح مع من حوله.

وفي المجتمعات، يؤدي هذا الفهم إلى إشاعة روح العمل والتعاون، وتقدير كل دور مهما كان بسيطًا. وهو ما يشكل القاعدة الأساسية لبناء مجتمع متماسك وعادل، ينظر فيه الناس إلى بعضهم بوصفهم شركاء في البناء، لا متنافسين على التميز.

الخاتمة

إن سنة التفضيل بين العباد من السنن الإلهية الثابتة، وقد جاءت في القرآن والسنة توضيحات كثيرة تؤكد أنها ليست سببًا للتكبر أو التحقير، بل هي مجال للامتحان والتكامل والتراحم. فالفضل الحقيقي عند الله لا يُقاس بالمظاهر، وإنما بالتقوى والعمل الصالح. ومن أدرك هذه الحقيقة عاش حياته برضى وهمة، وساهم في بناء مجتمعه بإخلاص ووعي.

المراجع:

1. تفسير ابن كثير، دار طيبة، الطبعة الثالثة.

2. فتاوى اللجنة الدائمة، المجلد الأول، دار المؤيد.