سلمان العودة: الداعية والمفكر والإنسان
يُعد الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة أحد أبرز الدعاة والمفكرين الإسلاميين في العالم العربي والإسلامي خلال العقود الأخيرة. فقد تميز بخطابه المتجدد، وانفتاحه على قضايا العصر، ومساهماته العلمية والدعوية المؤثرة، إلى جانب مواقفه الفكرية والإنسانية التي أثارت جدلًا واسعًا في أوساط مختلفة. جمع بين الدراسة الشرعية المتعمقة، والانخراط العملي في قضايا المسلمين الفكرية والاجتماعية والسياسية، مما جعله شخصية محورية في المشهد الثقافي والديني الحديث.
هذا المقال يتناول السيرة الذاتية والفكرية والدعوية للشيخ سلمان العودة، ويحلل إسهاماته المتنوعة في الحقل الإسلامي، مع التركيز على محطات التحول التي مر بها، والتحديات التي واجهته، والأثر الذي تركه في عقول أتباعه وخصومه على حد سواء.
النشأة والتعليم
وُلد الشيخ سلمان بن فهد العودة عام 1376هـ (1956م) في قرية “البصر” التابعة لمنطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية. نشأ في بيئة محافظة ومتدينة، وتأثر منذ صغره بأجواء العلم والتدين، مما جعله يُقبل على دراسة العلوم الشرعية منذ المراحل الأولى من حياته. حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وظهرت عليه سمات الذكاء والنبوغ في الفهم والاستيعاب.
التحق بمعهد إمام الدعوة العلمي في مدينة بريدة، ثم أكمل دراسته الجامعية في كلية الشريعة وأصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث حصل على البكالوريوس، ثم الماجستير في “السنة النبوية”، ثم الدكتوراه في “الحديث وعلومه”. وخلال هذه الفترة تأثر بعدد من العلماء والمفكرين، من أبرزهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن عثيمين، كما تأثر بكتابات ابن تيمية والغزالي وابن القيم وسيد قطب.
المسيرة الدعوية
بدأ الشيخ سلمان العودة نشاطه الدعوي في وقت مبكر من شبابه، حيث برز خطيبًا مفوهًا وعالمًا فقيهًا، وذا أسلوب مميز في الخطاب والموعظة. ومع ازدهار الحركة الصحوية في السعودية في الثمانينات والتسعينات، أصبح أحد أبرز رموزها، إلى جانب عدد من الدعاة مثل ناصر العمر، وسفر الحوالي، وعائض القرني.
اعتمد الشيخ في خطابه آنذاك على الطابع الوعظي التقليدي، لكنه كان يتمتع بقدرة عالية على إيصال المعاني، واستحضار النصوص، وربطها بالواقع، وهو ما أكسبه شعبية واسعة بين فئة الشباب على وجه الخصوص. كما كان حضوره الإعلامي في البرامج التلفزيونية الإسلامية يسهم في نشر أفكاره ومواعظه، مما جعله يحظى بجماهيرية واسعة.
النشاط السياسي ومرحلة السجن
شهدت بداية التسعينات تحولات سياسية كبيرة في المنطقة، أبرزها حرب الخليج الثانية عام 1991، والتي خلقت انقسامًا كبيرًا في الموقف من الاستعانة بالقوات الأجنبية. كان سلمان العودة من بين الدعاة الذين اتخذوا موقفًا معارضًا لتواجد القوات الأمريكية في الجزيرة العربية، وشارك في توقيع “مذكرة النصيحة” الموجهة إلى الملك فهد، والتي تضمنت مطالبات إصلاحية من أبرزها الدعوة إلى إحياء الشورى، وتفعيل دور العلماء، والحد من الفساد المالي والإداري.
هذا الموقف وضعه تحت رقابة السلطات، ليتم اعتقاله في سبتمبر عام 1994، مع مجموعة من رموز الصحوة، في سجن الحائر بالرياض، واستمر اعتقاله قرابة خمس سنوات، حتى أُفرج عنه عام 1999. وقد شكّلت هذه المرحلة نقلة نوعية في شخصيته وخطابه، حيث انشغل خلال السجن بالمراجعة الفكرية، والقراءة المعمقة، وكتابة التأملات والتفسيرات، مما مهد له مرحلة جديدة من الوعي والانفتاح.
ما بعد السجن: التحول الفكري والانفتاح
بعد خروجه من السجن، بدأ سلمان العودة رحلة فكرية أكثر انفتاحًا ومرونة، تميزت بالتحرر من الخطاب الصحوي التقليدي، والانفتاح على القضايا الفكرية والفلسفية والإنسانية، وأظهر ميلًا إلى خطاب المصالحة والتسامح، والدعوة إلى التعددية والحرية الدينية والسياسية.
أطلق عددًا من البرامج والمبادرات التي عكست هذا التحول، مثل برنامج “الحياة كلمة” الذي كان يُبث على قناة MBC، والذي تناول فيه موضوعات حياتية وفكرية بروح دعوية متسامحة. كما أصدر كتبًا تُظهر هذا الانفتاح، مثل:
-
“مع الله”
-
“زنزانة: عادة مدى الحياة”
-
“لو كنت طيرًا”
-
“أسئلة العنف”
-
“أنا وأخواتها”
وتُظهر هذه الكتب انشغاله بقضايا الإنسان، النفس، الحرية، العدل، حقوق المرأة، الحوار، وغير ذلك من الموضوعات التي نادرًا ما تناولها الخطاب الديني التقليدي.
الفكر الوسطي والاعتدال
تميّز سلمان العودة بدعوته إلى الفكر الوسطي والاعتدال، وكان من أبرز الأصوات التي دعت إلى تجديد الخطاب الديني، ورفض الغلو والتطرف، وتقديم الإسلام بوصفه رسالة رحمة وعدل، لا رسالة قمع وإقصاء. كما دعا إلى الحوار مع الغرب، وتفكيك الصور النمطية عن الإسلام، وشجع على الانفتاح على الحضارات الأخرى من منطلق الثقة بالهوية الإسلامية.
تبنى رؤية نقدية للتدين الشكلي، وركّز على إحياء المقاصد الشرعية الكبرى مثل العدل، والحرية، والكرامة، والمشاركة، والرحمة، وهي مفاهيم كانت في صلب خطابه في السنوات الأخيرة من نشاطه العلني قبل اعتقاله مرة أخرى.
مواقفه من الربيع العربي
خلال ثورات الربيع العربي في عام 2011، أبدى الشيخ سلمان العودة تعاطفًا واضحًا مع مطالب الشعوب في الحرية والكرامة، وكتب عددًا من المقالات والتغريدات التي أيدت الحراك الشعبي السلمي، خصوصًا في مصر وتونس واليمن وسوريا. لكنه حرص أيضًا على الدعوة إلى التوازن، ونبذ العنف، وتغليب الحوار الوطني، وتفادي الاحتراب الأهلي.
وكانت له تغريدة مشهورة قال فيها: “اللهم ألّف بين قلوبهم لما فيه خيرهم”، وهي التغريدة التي استخدمها الادعاء العام السعودي لاحقًا ضمن لائحة التهم ضده باعتبارها تحريضًا على الفتنة، وهو ما أثار انتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان.
اعتقاله الأخير والمحاكمة
في سبتمبر عام 2017، تم اعتقال الشيخ سلمان العودة مرة أخرى ضمن حملة شملت دعاة ومفكرين ونشطاء من مختلف التيارات، وقد ظل منذ ذلك الحين معتقلًا دون محاكمة عادلة، وسط تقارير متكررة عن تعرضه لسوء المعاملة، والعزل الانفرادي، وتدهور حالته الصحية.
وجهت له السلطات السعودية 37 تهمة، من بينها الانتماء لجماعة إرهابية، والتحريض على الفتنة، وزعزعة أمن الدولة، والتعاطف مع الإخوان المسلمين، وهي تهم نفاها محاموه ومنظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، معتبرة اعتقاله جزءًا من حملة قمع أوسع تستهدف حرية التعبير.
ولا يزال ملفه القضائي معلقًا حتى لحظة كتابة هذا المقال، دون إصدار حكم نهائي، وسط دعوات دولية مستمرة للإفراج عنه.
الجدول الزمني لأبرز محطات حياة الشيخ سلمان العودة
| السنة | الحدث |
|---|---|
| 1956 | ولادته في قرية البصر، القصيم |
| 1980s | بداية نشاطه الدعوي الواسع ضمن الصحوة الإسلامية |
| 1991 | معارضة وجود القوات الأجنبية في الخليج |
| 1994 | اعتقاله لمدة خمس سنوات |
| 1999 | الإفراج عنه وتغيير مساره الفكري |
| 2000s | إصدار عدد من الكتب والمشاركة الإعلامية المكثفة |
| 2011 | تأييده السلمي لثورات الربيع العربي |
| 2017 | اعتقاله مجددًا بعد تغريدة حول المصالحة الخليجية |
التأثير والإرث الفكري
يُعد الشيخ سلمان العودة من الدعاة القلائل الذين تركوا بصمة عميقة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، فقد نجح في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الفكر والدعوة، وبين الدين والإنسان، وفتح آفاقًا جديدة للفكر الإسلامي بعيدًا عن الجمود والتقليد.
أثره لا يقتصر على كتبه وخطبه، بل يمتد إلى مئات الألوف من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذين تأثروا بخطابه المتجدد، ووجدوا فيه صورة للداعية الإنسان، والمفكر الذي يطرح الأسئلة الكبرى بشجاعة وهدوء، دون انفعال أو مزايدة.
الخلاصة
تُعد سيرة الشيخ سلمان العودة مرآة لتحولات الفكر الإسلامي المعاصر في المملكة العربية السعودية والعالم العربي عمومًا. فمن داعية تقليدي إلى مفكر تجديدي، ومن خطاب وعظي إلى خطاب نقدي إنساني، ثم إلى معتقل رأي، تتجلى في رحلته تعقيدات المشهد الديني والسياسي والفكري في المنطقة.
وقد مثّل صوتًا نادرًا في الجمع بين العمق العلمي والوعي الاجتماعي، وبين الانحياز للقيم العليا والانفتاح على الواقع، مما جعله محل تقدير كبير في الأوساط الفكرية، ومحل جدل في الأوساط السياسية، لكنه سيبقى بلا شك من أبرز الشخصيات الإسلامية تأثيرًا في عصرنا الحديث.
المراجع:
-
سلمان العودة، زنزانة: عادة مدى الحياة، دار أطياف، 2016
-
Human Rights Watch, “Saudi Arabia: Free Prominent Cleric Salman al-Awda”, 2019
