الابتعاد عن الشهوات

عنوان المقال: الابتعاد عن الشهوات

تُعدّ الشهوات من أعظم التحديات التي تواجه الإنسان في مسيرة حياته الإيمانية والأخلاقية، وهي فتنة قديمة متجددة، ترافق الإنسان منذ نعومة أظفاره وحتى لحظة وفاته. والشهوة في أصلها ليست مذمومة في كل أحوالها، بل هي من مكونات الفطرة الإنسانية التي خلقها الله، ولكن الإشكال يظهر حين تخرج هذه الشهوات عن مسارها المشروع وتتحول إلى نزوات مدمّرة تقود إلى الذنوب والمعاصي، بل وتُفسد القلب، وتقطع العبد عن مولاه، وتُبعده عن طريق النجاة.

يندرج هذا المقال تحت مسعى تربوي نفسي وديني يعالج مسألة الانغماس في الشهوات المحرّمة، ويطرح طرقاً علمية وشرعية مجرّبة في كيفية التخلص منها والارتقاء بالروح إلى مستوى المجاهدة والتسامي عن الرغبات الحيوانية التي تقود الإنسان إلى الهلاك.

مفهوم الشهوة في الإسلام

الشهوة هي ميل النفس إلى ما تحبه وتشتهيه، سواء كان من الطعام أو المال أو الجنس أو السلطة أو غيرها من متاع الدنيا. وقد خلق الله الشهوة لحكمة عظيمة، فهي دافع البقاء والتكاثر والعمل، ولكن الشريعة الإسلامية جاءت لتنظيمها وتقييدها ضمن ضوابط تحفظ التوازن بين الروح والجسد، بين العقل والغريزة.

قال تعالى:

{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ…} [آل عمران: 14]

فهذه الزينة اختبار وابتلاء، وليست إذناً مطلقاً بالإشباع. ومن هنا يبدأ طريق المجاهدة.

أنواع الشهوات المؤثرة على سلوك الإنسان

تتنوع الشهوات وتتشعب، وأبرزها:

آثار الانغماس في الشهوات

الانغماس في الشهوات يترك آثاراً وخيمة على النفس والجسد والدين والمجتمع. من أبرز هذه الآثار:

1. ضعف الإيمان: إذ تتحول الشهوة إلى صنم يُعبد، وتتناقص علاقة العبد بربه.

2. اضطراب النفس: يعيش الإنسان بين ندم ولذة زائلة، فينتج القلق والتوتر والشعور بالفراغ.

3. انهيار القيم الأخلاقية: تغيب المروءة وتقلّ الحياء وتُرتكب الفواحش.

4. هلاك المجتمعات: تنتشر الفواحش، وتتفكك الأسر، وتضعف الأمة.

5. الخروج من السكينة إلى العذاب: فمن تبِع هواه كان من الهالكين، كما قال تعالى:
   
   {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الجاثية: 23].

الأسباب المؤدية إلى الوقوع في الشهوات

لفهم كيفية الابتعاد عن الشهوات، ينبغي أولاً التعرف على الأسباب التي تُوقِع الإنسان فيها، وأهمها:

• ضعف التربية الإيمانية: حين يُترك القلب بلا غذاء روحي ولا محاسبة.

• الخلوة بالنفس والانفراد عن الصحبة الصالحة.

• الفراغ والبطالة: فالنفس إذا لم تُشغل بالخير شغلت صاحبها بالشر.

• سوء استعمال التقنية: وخاصة الإنترنت ومواقع التواصل التي تُهيّج الغرائز.

• ضعف الإرادة وعدم وجود أهداف عليا في الحياة.

خطوات عملية للابتعاد عن الشهوات

1. تقوية الصلة بالله

المفتاح الأول هو تقوية العلاقة مع الله عز وجل من خلال:

• الصلوات الخمس بخشوع، فهي عمود الدين، تنهى عن الفحشاء والمنكر.

• قيام الليل، فالنفس تتهذب في ظلمة الليل بين يدي الرحمن.

• القرآن الكريم، فهو الشفاء الحقيقي لأمراض الشهوات والهوى.

• الدعاء، فهو سلاح العبد في مواجهة ضعف النفس ووساوس الشيطان.

2. المجاهدة اليومية للنفس

قال تعالى:

{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].

فلا يكفي التمني، بل لابد من مجاهدة النفس، والبعد عن مواطن الفتنة، وإجبار النفس على الطاعات.

3. ضبط البصر والسمع

البصر هو البوابة الكبرى للشهوة. وقد قال النبي ﷺ:

“العينان تزنيان، وزناهما النظر” [رواه البخاري].

فلابد من غض البصر، وحماية السمع من سماع ما يُثير الغرائز، كتتبع الأغاني والصور المثيرة.

4. ملء الوقت بما ينفع

كل لحظة فراغ هي فرصة للشيطان ليزرع شهواته، فالعاقل يشغل يومه بالعلم والعمل والعبادة والتأمل. الأنشطة البدنية، والقراءة، والمشاركة في عمل خيري تشتت طاقة الشهوة في اتجاه نافع.

5. الصحبة الصالحة

الرفقة الصالحة من أعظم أسباب الثبات، فهي تعين على الطاعة وتُذكّر بالله وتردع عن المعصية. قال النبي ﷺ:

“المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل” [رواه أبو داود].

6. تذكر الموت والآخرة

الذي يتذكر القبر، والموقف بين يدي الله، وحرّ جهنم، لن يركن إلى لحظات لذة مؤقتة تُطفئ نوره وتقطع صلته بخالقه.

دور البيئة المحيطة في إشعال الشهوة

تلعب البيئة التي يعيش فيها الإنسان دوراً محورياً في تغذية الشهوة أو محاربتها. المجتمعات المعاصرة تتفنن في صناعة الإغراء من خلال الإعلانات، والموضة، والمحتوى الإعلامي. فينبغي على المسلم:

• اختيار بيئة طاهرة.

• تجنب المتابعة العشوائية لوسائل الإعلام.

• تقنين استخدام الإنترنت.

• زرع الثقافة الوقائية في الأبناء من سن مبكر.

أثر الصيام في كبح الشهوات

الصيام مدرسة تربوية إيمانية عظيمة لكبح الشهوات، فهو يكسر شهوة الطعام والجنس، ويربّي على الصبر والمراقبة، ويهذّب الجسد، ويقوي الإرادة. قال رسول الله ﷺ:

“يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” [رواه البخاري].

الزواج كحل شرعي واقعي

الزواج هو الإطار الشرعي الوحيد لتفريغ الشهوة بطريقة مباركة. وقد دعا الإسلام إليه، ورغب فيه، وجعل فيه الطمأنينة والسكن. تأخر الزواج أو رفضه بدافع المتعة المؤقتة، هو من أبرز أبواب الفتن.

منهج التوبة المتكررة

كل ابن آدم خطّاء، ولكن خير الخطائين التوابون. التوبة الصادقة من الشهوات تبدأ بـ:

1. الإقلاع الفوري.

2. الندم على الفعل.

3. العزم على عدم العودة.

4. إصلاح ما فُسد، إن أمكن.

وإن عاود العبد الذنب ثم تاب، فإن الله يغفر له مادام صادقاً في العودة.

تأملات في نهاية أهل الشهوات

سير من أُتلفت حياتهم بالشهوات تقرع نواقيس الخطر لكل من يستهين بالأمر. كم من شاب ضاع مستقبله بسبب المخدرات، أو فتاة انهارت نفسيتها بسبب علاقات محرمة. وكم من مسؤول باع دينه لأجل مال أو شهوة زائلة. في المقابل، من قاوم شهوته ارتقى في مدارج القرب من الله، وحُفّت حياته بالسكينة، ونال ثقة الله ورضاه.

خلاصة

الابتعاد عن الشهوات لا يتحقق بكلمة ولا بنصيحة، بل هو مسار طويل من المجاهدة اليومية والتربية النفسية والصبر، وتغذية الروح بالقرآن والذكر والصلاة والصحبة الصالحة. فالشهوة في حقيقتها معركة داخل النفس بين العقل والهوى، بين النور والظلمة، بين الجنة والنار.

وقد آن للعبد أن يختار موقعه: إما أن يكون عبداً لهواه، أو عبداً لله.

فمن غلب شهوته، فقد ملك نفسه، ومن ملك نفسه، فقد فاز بالدنيا والآخرة.

المراجع:

1. ابن القيم، “إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان”، دار الكتب العلمية، بيروت.

2. الإمام الغزالي، “إحياء علوم الدين”، دار المعرفة، بيروت.