علم الفقه: مفهومه، تطوره وأثره في الشريعة الإسلامية
علم الفقه هو أحد العلوم الإسلامية الأساسية التي تعنى بدراسة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال الإنسان، وبيان كيفية تنفيذها طبقًا لما ورد في الكتاب والسنة. يُعرف الفقه في اللغة بأنه “الفهم” و”التفهم”، أما في الاصطلاح الشرعي فهو علم استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وهو العلم الذي يوضح للإنسان كيفية أداء العبادات والمعاملات في حياته اليومية وفقًا للشريعة الإسلامية. يعتبر الفقه علمًا متجددًا يتناول جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأسرية، ويتسع مع الزمن ليشمل مستجدات الأمور التي لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة.
نشأة علم الفقه وتطوره
تعود بداية ظهور الفقه كعلم إلى العهد النبوي، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين للناس أحكام الشريعة بلسانه، ويطبقها في حياته اليومية، لكن مع مرور الوقت ومع تزايد عدد المسلمين وتوسُّع الرقعة الإسلامية، أصبح من الضروري جمع الأحكام وتفسيرها بطرق أكثر دقة. ومع بداية عصر الخلافة الإسلامية، بدأ الفقهاء في جمع الروايات وأقوال الصحابة وتوثيقها، مما أسهم في وضع أسس علم الفقه.
في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ظهر لأول مرة استخدام “المذاهب الفقهية” بشكل رسمي. فقد كان هناك اجتهادات متنوعة، حتى ظهرت المدارس الفقهية الكبرى مثل: المذهب الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي، وكل منها تبنى منهجًا معينًا في استنباط الأحكام، بناءً على الأدلة الشرعية التي تمت الموافقة عليها.
أسس علم الفقه وأدلته
يقوم الفقه على مجموعة من الأسس التي يتم من خلالها استنباط الأحكام الشرعية، وأبرزها:
-
الكتاب (القرآن الكريم): يعد القرآن الكريم المصدر الأول والأسمى للأحكام الشرعية، ويحتوي على أحكام واضحة تتعلق بالعبادات والمعاملات. بعض الآيات في القرآن الكريم تحوي أحكامًا قطعية الثبوت والدلالة، بينما توجد آيات أخرى تحتاج إلى تفسير واجتهاد.
-
السنة النبوية: تعد السنة النبوية المصدر الثاني للأحكام الشرعية، وهي تتضمن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريره. كان الصحابة يعتمدون على السنة لتوضيح ما غمض عليهم من آيات القرآن الكريم.
-
الإجماع: يُعتبر الإجماع أحد الأدلة المهمة في الفقه، وهو اتفاق العلماء في فترة معينة من الزمن على حكم شرعي معين. يعتبر الإجماع دليلًا قاطعًا في استنباط الأحكام، ويُحترم في جميع المذاهب الفقهية.
-
القياس: هو عملية استنباط حكم شرعي لم يتطرق له النص من خلال قياسه على حكم موجود في النصوص الشرعية. يقوم القياس على البحث عن علّة الحكم في النص وتطبيقها على المسألة المستجدة.
-
الاستحسان: وهو إعمال العقل في الحالات التي تتطلب حكمًا غير تقليدي، بحيث يُستحسن الفقيه حكمًا مغايرًا للقياس الظاهر إذا كان يخالف المصلحة العامة أو يسبب ضررًا أكبر.
-
المصلحة المرسلة: هي الأخذ بالحكم الذي يؤدي إلى مصلحة للأمة ويخدم عامة الناس دون أن يتعارض مع النصوص الشرعية. وقد أُخذ بهذا المبدأ في عدد من الحالات التي لم يرد فيها نص واضح.
-
العرف: في بعض الأحيان يُعتمد على العرف أو العادة في تحديد الحكم الشرعي، خاصة في مسائل المعاملات، طالما أن هذا العرف لا يتعارض مع أحكام الشرع.
فروع علم الفقه
علم الفقه ليس علمًا واحدًا بل يتفرع إلى عدة فروع، وكل فرع يعنى بمجال معين من جوانب الحياة. وتتمثل الفروع الرئيسية لعلم الفقه في:
-
فقه العبادات: ويشمل دراسة الأحكام المتعلقة بالعبادات مثل الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. هذا الفرع يُعنى بالواجبات التي يجب على المسلم أداءها تقربًا إلى الله.
-
فقه المعاملات: يهتم بدراسة الأحكام المتعلقة بالعلاقات التجارية، والمعاملات المالية مثل البيع، والشراء، والإيجار، والربا، والوديعة، والرهونات. وهو من الفروع المهمة التي تنظم الحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي.
-
فقه الأسرة: يعنى بدراسة الأحكام المتعلقة بالعلاقات الأسرية مثل الزواج، والطلاق، والميراث، والوصية، والنفقة، والحقوق والواجبات بين الزوجين والأبناء.
-
فقه الجنايات والعقوبات: يتناول دراسة الأحكام المتعلقة بالجنايات والحدود في الشريعة الإسلامية مثل القتل، والسرقة، والربا، والزنا، والشهادة، والعقوبات المقررة في الشريعة الإسلامية.
-
فقه القضاء والشهادات: يتعلق بتوضيح كيفية القضاة استنباط الأحكام وتطبيقها في المحاكم الشرعية، وما يتعلق بشهادة الشهود في القضايا الشرعية.
-
فقه السياسة الشرعية: يشمل دراسة الأحكام المتعلقة بالدولة الإسلامية، وتوضيح الحقوق والواجبات للحاكم والمحكوم، والعدل، وتطبيق الشريعة في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية.
-
فقه الجهاد: يتناول الجهاد في الشريعة الإسلامية، ويشرح الأحكام المتعلقة بالحروب، والقتال، والآداب الإسلامية في الحروب والمعارك.
تأثير الفقه على المجتمع الإسلامي
لقد كان للفقه الإسلامي دور كبير في حياة المسلمين في مختلف العصور. فقد ساعد الفقهاء على تحديد كيفية سير الحياة اليومية وفقًا للأحكام الشرعية، مما جعل المجتمع الإسلامي يتسم بالتنظيم والاستقرار في مختلف جوانب الحياة. كما أن الفقه كان له تأثير كبير في تشكيل العديد من القوانين المدنية والجنائية في الدول الإسلامية.
في العصر الحديث، أصبح الفقه يواجه تحديات جديدة بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن التطور التكنولوجي والتحديات السياسية. فقد استدعى ذلك اجتهادًا مستمرًا من العلماء لتفسير بعض المسائل المستجدة مثل قضايا التقنية، والعلاقات الدولية، والتجارة العالمية، والحقوق المدنية. وعليه، أصبح الفقه الإسلامي يعيد النظر في بعض القضايا وفقًا للواقع الجديد مع الحفاظ على الأسس الشرعية.
الختام
إن علم الفقه هو علم حي ومتجدد يعكس عظمة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التكيف مع مختلف الأزمنة والأمكنة. ورغم ما يواجهه الفقه من تحديات، فإن استمراره في تطور مستمر يعتبر دليلاً على مدى صلاحيته وملاءمته لجميع مجالات الحياة. يظل الفقه مرشدًا للمسلمين في سلوكهم اليومي، ويُعنى بمقاصد الشريعة في حفظ الدين والمال والعقل والنسل والكرامة الإنسانية.
