أحكام البسملة: أبعادها الدينية واللغوية في الإسلام
تعدّ البسملة، التي تتكون من الكلمات “بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”، واحدة من أبرز وأهم العبارات في الإسلام. فهي ليست مجرد مقدمة تبدأ بها العديد من الأعمال والعبادات اليومية، بل تحمل في طياتها معانٍ ودلالات غنية تتعلق بالعقيدة الإسلامية، واللغة العربية، وآداب الحياة. ولكونها ذات مكانة عالية في الموروث الديني والثقافي، فقد اختلف العلماء في بعض أحكامها ومواضع استخدامها، وذلك بناءً على فهمهم المتفاوت للنصوص الشرعية وعلوم اللغة. وفي هذا المقال، نتناول أحكام البسملة من عدة جوانب تشمل معانيها اللغوية والدينية، والحكمة من تكرارها، بالإضافة إلى اختلافات الفقهاء حول استخدامها في مواضع معينة.
أولاً: البسملة في القرآن الكريم
البسملة تعد جزءاً من أول آية من كل سورة من سور القرآن الكريم ما عدا سورة التوبة. هذه العبارة، التي تبدأ بها العديد من السور، تمثل بداية العمل والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وهي تحمل دلالة التوكل على الله وطلب المعونة من الله العزيز الرحيم في كل فعل يتم القيام به. وتعد البسملة في القرآن الكريم من أسمى وأجمل العبارات لأنها تجمع بين اسمي الله “الرحمن” و”الرحيم”، مما يبرز جانب الرحمة والرفق الإلهي.
ثانياً: معنى البسملة ودلالاتها اللغوية
البسملة تتكون من ثلاث كلمات: “بِسْمِ”، “اللَّـهِ”، “الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”. كل كلمة منها تحمل دلالات معنوية عميقة:
-
بِسْمِ: حرف الجر “بِ” يدل على الاستعانة أو التوكيل، وهي توحي بأن الفعل أو العمل يُعتمد فيه على الله وتوفيقه.
-
اللَّـهِ: اسم الجلالة “الله” يعبّر عن الذات الإلهية العظيمة، وهو يشير إلى أن الفعل الذي يتم هو في إطار التوجه نحو الله، الذي هو مصدر كل شيء في الكون.
-
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هذان الاسمان يصفان صفة الرحمة الخاصة والعامة لله تعالى. “الرحمن” تدل على الرحمة العامة لجميع خلق الله، بينما “الرحيم” تشير إلى الرحمة الخاصة بالمؤمنين.
ثالثاً: البسملة في السنة النبوية
من خلال السنة النبوية، نجد أن البسملة قد كانت جزءاً أساسياً من حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فقد كان عليه الصلاة والسلام يرددها في بداية العديد من أعماله اليومية والعبادية، بدءاً من الأذكار الصباحية والمساء، وصولاً إلى قيامه بالعبادات الكبيرة مثل الصلاة والوضوء. وتظهر البسملة بشكل متكرر في الأحاديث النبوية، حيث يعطى المؤمنون توجيهات لبدء أعمالهم بهذا الذكر المبارك. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر” (رواه ابن ماجه)، مما يدل على أهمية البدء باسم الله في كل عمل ذي شأن.
رابعاً: أحكام البسملة في الفقه الإسلامي
1. البسملة في الصلاة
الآراء الفقهية حول حكم البسملة في الصلاة تتنوع بين المذاهب الإسلامية. ففي المذهب الحنفي، يُستحب قول البسملة بصوت منخفض في بداية قراءة السور، ولكن يُعتقد أنه لا يجب قولها في الصلاة سوى في بداية سورة الفاتحة، وذلك في جميع الصلوات. أما في المذهب الشافعي، فيرى العلماء أنه يجب على المصلّي أن يذكر البسملة في بداية كل سورة من سور القرآن التي يقرؤها خلال الصلاة، سواء كان ذلك بصوت منخفض أو مرتفع، باستثناء سورة التوبة التي لا تذكر فيها البسملة.
2. البسملة في الطعام
يعتبر قول البسملة عند تناول الطعام من السنن المستحبة في الإسلام. فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي فليقل: بسم الله في أوله وآخره”. وهي دعوة للتذكرة الدائمة بأن نعم الله ورزقه هو مصدر كل ما نملك، ويجب أن نُبدي له الشكر في جميع الأوقات.
3. البسملة في الأفعال اليومية
البسملة لا تقتصر فقط على العبادات، بل هي مستحبة أيضاً في جميع أعمال الحياة اليومية. إذ يجب على المسلم أن يبدأ أفعاله اليومية بكلمة “بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” مثل: الدخول إلى البيت، ركوب المركبة، أو حتى عند الذهاب إلى العمل أو قراءة الكتب. فهي بمثابة تذكير دائم بأن الله سبحانه وتعالى هو المحور الأساسي لكل عمل وأساس لكل خير.
4. البسملة في المعاملات
في العديد من المعاملات التجارية والمالية، كان السلف الصالح يحرصون على ذكر البسملة عند إتمام العقود والمبايعات. إذ تعكس البسملة نية المسلم في أن يكون عمله خالصاً لوجه الله، خالياً من أي شبهة أو غش.
خامساً: خلافات الفقهاء في مسألة البسملة
على الرغم من اتفاق معظم العلماء على أهمية البسملة، فإن هناك بعض الخلافات الفقهية حول استخدامها في بعض المواضع. من أبرز هذه المسائل:
-
البسملة عند بداية القراءة من القرآن: اختلف الفقهاء في حكم البسملة في بداية السور. فالمذهب الحنفي يراها سنة مؤكدة في قراءة القرآن، بينما يرى المذهب المالكي أن البسملة في بداية السور ليست فرضاً بل مجرد مستحب.
-
البسملة في بداية الكتابة: هناك من العلماء من يرى أن البسملة يجب أن تكون في بداية كل كتاب أو رسالة، وذلك تيمناً ببدء أعمالهم باسم الله. بينما يراها آخرون مجرد مستحب وليس بفرض.
-
البسملة في بداية المواعظ والخطب: عادة ما يبدأ الخطباء والمحاضرون خطبهم وحلقاتهم الدينية بالبسملة تعبيراً عن الافتتاحية المباركة. ورغم أنه لا يوجد خلاف كبير حول هذا الموضوع في الشريعة الإسلامية، فإن البعض من أهل العلم يعتبرون أن البسملة يجب أن تكون جزءاً من كل حديث أو موعظة.
سادساً: الحكمة من البسملة في حياتنا اليومية
البسملة ليست مجرد تعبير لفظي بل هي جزء من ثقافة إسلامية ترسخ التوكل على الله في جميع شؤون الحياة. فهي بمثابة استحضار دائم لوجود الله ورحمته في كل عمل نقوم به. وكأنما يضع المسلم نفسه بين يدي الله في بداية كل عمل، متوكلاً عليه في نجاحه وفشله. من هنا، نجد أن البسملة تعمل على تهذيب النفس، وتزرع في قلب المؤمن إحساساً بالاطمئنان واليقين بأن الله هو الحامي والرازق والميسر لكل أمر.
سابعاً: تأثير البسملة في المجتمع المسلم
من خلال تكرار البسملة في مختلف مظاهر الحياة، تنتشر الطمأنينة والتوكل على الله بين المسلمين. فهذه العبارة البسيطة، رغم قصرها، تبعث في النفس شعوراً بالأمل والتفاؤل، وتذكر الشخص المسلم بأهمية توجيه كل عمل لله تعالى. كما أن ذكر البسملة يعد من مظاهر التكافل الاجتماعي بين المسلمين، حيث تدل على الإيمان المشترك بالله، وهو ما يجعل المجتمع الإسلامي أكثر تماسكاً روحياً وعملياً.
خاتمة
في النهاية، نجد أن البسملة تحمل في طياتها معاني عميقة وتوجيهات عملية تشكل أساساً من أسس حياة المسلم اليومية. فهي بداية لكل عمل وفعل، تعكس الارتباط الوثيق بالله وتعتبر أداة تهذيب للنفس، كما أنها تذكير دائم بأن الله سبحانه وتعالى هو المالك والمدبر لكل شيء. ومن خلال هذه العبارة المباركة، يتمكن المسلم من بناء حياته على أساس من التوكل على الله، وهو ما يجعل كل عمل يقوم به أكثر بركة ونجاحاً.
