عازار حبيب: المغني والملحن اللبناني الذي ترك بصمة خالدة في الذاكرة الموسيقية العربية

يُعد عازار حبيب أحد أعمدة الموسيقى اللبنانية والعربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ويمثل حالة فنية استثنائية مزجت بين الأصالة والحداثة، وبين الكلمة البسيطة واللحن العميق. ولد في زمن تحوّلات موسيقية كبرى، واستطاع أن يشقّ طريقه بنجاح في بيئة فنية مزدحمة بأسماء لامعة، فكان له صوته الخاص الذي لا يُشبه أحدًا، وأسلوبه الموسيقي الذي ميّزه عن أقرانه. تنقّل بين الأغنية الرومانسية والطربية والوطنية، وترك إرثاً فنياً كبيراً جعل اسمه منقوشاً في ذاكرة المستمع العربي.

النشأة والبدايات

وُلد عازار حبيب في العام 1945 في بلدة الحازمية التابعة لقضاء بعبدا في جبل لبنان، لعائلة مارونية بسيطة. من صغره، أبدى ميولاً واضحة نحو الموسيقى، وكان مولعاً بالألحان الشرقية والآلات الموسيقية الكلاسيكية، خاصة آلة العود التي لازمته طوال مسيرته الفنية. بدأ تعليمه الموسيقي بشكل أكاديمي عبر دروس العزف والتلحين، وتوسّع في استيعاب المقامات الشرقية والنظريات الموسيقية الغربية، وهو ما ساعده لاحقاً في بناء أسلوبه الفني الفريد.

في بداياته الفنية، عمل عازار حبيب كعازف عود في الفرق الموسيقية المرافقة لبعض المطربين اللبنانيين المعروفين، ما منحه خبرة عملية كبيرة في فهم طبيعة السوق الفني وذوق الجمهور. ولكن طموحه تجاوز حدود العزف، فبدأ يُعد ألحانه الخاصة ويبحث عن صوت يُجسّد إحساسه، حتى قرّر أن يغني لنفسه، فكانت تلك نقطة التحوّل في مسيرته.

الصعود إلى النجومية

انطلقت مسيرة عازار حبيب كمغنٍ في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حين قدّم أولى أغنياته الخاصة “من غير ليه” و”قديش كان في ناس”، التي لاقت استحسانًا واسعًا. ولكن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع أغنيته “أنا يا طير”، والتي لحنها بنفسه، وكتب كلماتها الشاعر اللبناني إيليا أبو شديد، والتي شكّلت علامة فارقة في مسيرته، وفتحت أمامه أبواب الشهرة الواسعة في لبنان وسائر الدول العربية.

تميّزت أغنيات عازار حبيب بخط رومانسي عذب، وكلمات بسيطة قريبة من القلب، ولحن هادئ يعكس إحساسه المرهف. لم يسعَ للضجيج الموسيقي أو الكلمات المتكلّفة، بل خاطب الجمهور بلغة وجدانية مباشرة. وكان لعلاقته الوطيدة بالشعراء الكبار آنذاك دورٌ محوري في تطوير النص الغنائي في أعماله، حيث تعاون مع أسماء مثل طلال حيدر، وسعيد عقل، وإيليا أبو شديد، ما أضفى على أغنياته عمقًا أدبيًا وشاعرية نادرة.

الأسلوب الموسيقي

امتاز أسلوب عازار حبيب الموسيقي بكونه مزيجًا متقنًا من التراث والحداثة. لم يتردّد في استخدام الآلات الغربية مثل البيانو والغيتار والإيقاعات الإلكترونية، إلى جانب الآلات الشرقية التقليدية كالعود والقانون والناي. هذه المزاوجة خلقت طابعًا موسيقيًا فريدًا جعله في طليعة التجديد الموسيقي في لبنان والعالم العربي.

اعتمد في كثير من أعماله على المقامات الشرقية مثل البياتي، الحجاز، النهوند، والسيكاه، لكنه أضاف إليها جُرعة من الجُمل اللحنية الغربية، ما جعل أغنياته محببة إلى الأجيال الجديدة دون أن تفقد طابعها الشرقي الأصيل. كما تميّزت أعماله بإدخال الهارموني المتعدد الأصوات بشكل متناغم، وهو أمر لم يكن شائعاً في الأغنية اللبنانية حينها.

أبرز الأغاني الخالدة

طوال مسيرته الفنية، قدّم عازار حبيب عشرات الأغاني التي أصبحت من علامات الموسيقى العربية، ومن بينها:

• “أنا يا طير”: واحدة من أشهر أغنياته، تتميّز بلحن حزين وكلمات تعكس ألم الغربة والحنين.

• “راحوا الحبايب”: أغنية رومانسية مؤثرة تتناول الفقد والذكريات.

• “لعيونك”: وهي من أشهر أغنياته التي وصلت إلى جمهور واسع، وتُعد مثالًا على التمازج بين الغناء الشرقي والإيقاع الغربي.

• “قديش كان في ناس”: قدم فيها رؤية موسيقية شاعرية بمستوى لحني عالٍ.

• “يا ورد مين يشتريك”: وهي من الأغاني ذات الطابع الطربي الكلاسيكي.

مشاركته في الأعمال الوطنية

لم يكن عازار حبيب فنانًا رومانسياً فحسب، بل كان له أيضًا إسهاماته في الأغنية الوطنية، خاصة في مراحل الحرب اللبنانية. عبّر من خلال عدد من أغنياته عن الأمل في السلام، وضرورة التمسك بالهوية اللبنانية في وجه الانقسامات والدمار. رغم أنه لم يُعرف كفنان ملتزم سياسيًا، إلا أن أعماله حملت رسائل إنسانية واضحة. وقد تميّزت هذه الأغاني بالنبرة العاطفية بدل الشعارات، وهو ما جعلها أكثر قرباً إلى قلوب اللبنانيين.

ألبوماته الغنائية

أصدر عازار حبيب مجموعة من الألبومات التي توثق تطور تجربته الفنية، ومن أشهرها:

التعاونات الفنية

تميز عازار حبيب خلال مسيرته بعدد من التعاونات الفنية المهمة، خاصة مع كبار شعراء لبنان. إلا أنه كان يحرص على أن يحتفظ بدور المُلحن لنفسه، إذ كان يعتبر التلحين جزءاً لا يتجزأ من عملية التعبير الفني. كذلك، لم يدخل كثيراً في مجال الدويتوهات، مُفضلاً العمل المنفرد، وإن شارك في بعض البرامج الغنائية التلفزيونية والمهرجانات التي جمعته بفنانين كبار مثل وديع الصافي، وصباح، وماجدة الرومي.

تأثيره في الموسيقى العربية

يُعتبر عازار حبيب من الفنانين الذين ساهموا في رسم ملامح الأغنية اللبنانية الحديثة، من خلال رؤيته الفنية المتوازنة بين التراث والتجديد. وقد أثّر أسلوبه في عدد من الفنانين الشباب الذين رأوا فيه نموذجاً للفنان الأصيل، حيث كان يكتب بعض كلمات أغنياته، ويُلحنها، ويغنيها بإحساس عميق، وهو ما جعله مدرسة فنية متكاملة.

رغم أنه لم يحظَ بالدعاية الإعلامية التي نالها معاصروه، إلا أن تأثيره ظل حاضراً في ذاكرة الجمهور العربي، وأغنياته لا تزال تُذاع حتى اليوم، وتحظى بإعجاب الأجيال الجديدة من المستمعين.

وفاته والميراث الفني

توفي عازار حبيب في العام 2007 عن عمر يناهز 62 عامًا، إثر أزمة قلبية مفاجئة. شكلت وفاته صدمة في الوسط الفني اللبناني والعربي، خاصة أنه كان يخطط لعدد من المشاريع الفنية الجديدة حينها. ومع رحيله، فقدت الساحة الفنية صوتًا نادرًا من الأصوات التي لم تُشبه أحداً، وفنانًا كان يرفض الابتذال الفني، ويؤمن بأن الموسيقى رسالة وجدانية وجمالية سامية.

لكن أعماله بقيت حيّة، تُتناقل بين الأجيال، وتُعاد توزيعها بصيغ حديثة، ما يدل على الخلود الفني الذي حققه. ولعل الأثر الأبرز الذي تركه هو الحفاظ على النقاء الفني والابتعاد عن كل ما هو سطحي، في زمن بدأت فيه القيم الموسيقية بالتراجع لصالح التجارة الفنية.

الخلاصة

عازار حبيب لم يكن مجرد مغنٍ أو ملحن، بل كان فناناً شاملاً قدّم نموذجاً راقياً للموسيقي الملتزم بجماليات الفن لا بموجات السوق. صوته الدافئ وألحانه الحالمة وكلماته الرقيقة جعلت منه جزءًا من الذاكرة الفنية العربية، وشكّلت مدرسة قائمة بحد ذاتها. ومع أن مسيرته لم تكن طويلة بمقاييس الزمن، إلا أنها كانت عميقة بمقاييس الأثر.

يُعد عازار حبيب اليوم رمزًا للأغنية اللبنانية النقية، وصوتاً لا يزال يهمس في وجدان المستمع العربي، ويحمل معه عبق الزمن الجميل للموسيقى العربية.

المصادر:

1. أرشيف الإذاعة اللبنانية الرسمية

2. “تاريخ الموسيقى اللبنانية”، تأليف الدكتور فيليب سعادة – دار النهار، بيروت 2009