تمركز الذات عند الأطفال

سايكولوجيا التمركز حول الذات عند الأطفال: دراسة شاملة

تمثل مرحلة الطفولة واحدة من أهم الفترات في حياة الإنسان، حيث يشهد الطفل تطورًا نفسيًا وعقليًا مستمرًا. من بين الظواهر النفسية التي تميز هذه المرحلة، يظهر “التمركز حول الذات” كظاهرة محورية لا يمكن تجاهلها. يشير التمركز حول الذات إلى الميول التي يظهرها الطفل في تصرفاته وأفكاره نحو نفسه، حيث يرى نفسه في مركز الكون ويميل إلى تفسير الأحداث والظروف وفقًا لرؤيته الخاصة. يتصف الطفل في هذه المرحلة بنظرة ذاتية محدودة، تكون غالبًا محكومة بمرجعيته الشخصية، وقد يظل هذا التوجه سمة رئيسية لفترة طويلة من مراحل تطوره.

تعريف التمركز حول الذات

التمركز حول الذات هو مصطلح نفسي يشير إلى مرحلة من مراحل التطور المعرفي عند الأطفال، حيث يظن الطفل أن الآخرين يشتركون في تجربته الذاتية ويشعرون بما يشعر به. في هذه المرحلة، يميل الطفل إلى تفسير الأحداث والأشياء من خلال منظوره الشخصي فقط. فمثلاً، قد يظن الطفل أن الآخرين يرونه أو يفكرون بنفس الطريقة التي يفكر بها هو. يتمثل التمركز حول الذات في هذا السياق في قلة الوعي بوجود وجهات نظر وأحاسيس مختلفة عن تلك التي يمتلكها الطفل نفسه.

مراحل التمركز حول الذات

يمر الأطفال بمرحلة التمركز حول الذات عبر مراحل تطور معرفي معينة. يعتمد هذا التطور على نظرية جان بياجيه الشهيرة حول تطور الأطفال. في هذه النظرية، يتم تصنيف مراحل التطور العقلي وفقًا للقدرة المتزايدة على فهم المفاهيم المعقدة، وتنمو قدرة الطفل على تجاوز التمركز حول الذات مع مرور الوقت.

1. المرحلة الحسية الحركية (من الولادة حتى عامين):
   خلال هذه الفترة، يكون الطفل في طور تعلم العالم من حوله من خلال الحواس والتفاعل الحركي. لا يدرك الطفل بعد أنه كائن منفصل عن البيئة المحيطة به، وكل شيء يعتبر جزءًا من نفسه. هذا يعكس بداية التمركز حول الذات، حيث لا توجد حدود واضحة بين الذات والآخرين.

2. المرحلة ما قبل العمليات (من عامين إلى سبعة أعوام):
   في هذه المرحلة، يبدأ الطفل في اكتساب اللغة ويطور القدرة على التفكير الرمزي. ومع ذلك، يظل الطفل في هذه المرحلة يميل إلى رؤية الأمور من خلال منظور ذاتي. على سبيل المثال، قد يعتقد الطفل أن الأشخاص الآخرين يشاركونه نفس الأفكار أو المشاعر حول موضوع معين، حتى وإن لم يكن هذا صحيحًا.

3. المرحلة العملياتية الملموسة (من سبعة أعوام إلى اثني عشر عامًا):
   يبدأ الطفل في هذه المرحلة في تطوير مهارات التفكير المنطقي وتوسيع نطاق فهمه للأشياء. ومع ذلك، لا يزال التمركز حول الذات قائمًا بدرجة أقل، ويبدأ الطفل في تعلم أن وجهات النظر قد تختلف بين الأشخاص.

4. المرحلة العملياتية الشكلية (من اثني عشر عامًا فما فوق):
   في هذه المرحلة، يبدأ المراهقون في التفكير المجرد والقدرة على التفكير في الاحتمالات المستقبلية والمفاهيم المجردة. يمكنهم رؤية الأمور من منظور الآخرين، لكن التمركز حول الذات قد يظهر أحيانًا في مواقف محددة.

الأسباب وراء التمركز حول الذات

يعد التمركز حول الذات جزءًا طبيعيًا من تطور الطفل، ويعود إلى عدة أسباب متداخلة:

1. التحولات العصبية والنمائية:
   عندما يولد الطفل، يكون دماغه في مرحلة تطور نشطة للغاية. لا يستطيع الطفل في البداية التمييز بين ذاته والآخرين بشكل كامل. كما أن الوعي بوجود الآخرين هو شيء يتطور مع مرور الوقت، ويحدث ببطء مع تزايد قدرة الطفل على معالجة المعلومات وتطوير الإدراك الاجتماعي.

2. عدم اكتمال الفهم المعرفي:
   خلال مراحل نمو الطفل المبكرة، لا يكون لديه القدرة على التفكير بشكل غير أناني أو على إدراك أن الأشخاص الآخرين قد يكون لديهم اهتمامات، أفكار، أو مشاعر مختلفة. هذه القدرة على التفكير بالآخرين تتطور تدريجيًا، وتصبح أكثر وضوحًا في مراحل لاحقة.

3. التأثيرات الاجتماعية والتعليمية:
   تساهم الأسرة والمجتمع بشكل كبير في تصرفات الأطفال. من خلال تفاعلهم مع الكبار والأقران، يبدأ الأطفال في فهم كيفية ارتباطهم بالآخرين وكيفية تأثير أفعالهم على من حولهم. ولكن حتى هذه المرحلة، قد لا يكون لدى الطفل القدرة على تمييز بين الحقائق الذاتية والموضوعية.

4. التجارب الشخصية والعاطفية:
   يسعى الأطفال في أغلب الأحيان إلى تفسير الأحداث والتجارب وفقًا لمشاعرهم الخاصة. على سبيل المثال، إذا شعر الطفل بالخوف من موقف ما، فقد يعتقد أن الجميع يشعرون بالخوف نفسه، وذلك بسبب تمركزه حول ذاته.

آثار التمركز حول الذات على سلوك الأطفال

التمركز حول الذات يمكن أن يظهر في العديد من التصرفات التي قد تبدو مزعجة أو غير مريحة للآخرين، خاصة في المواقف الاجتماعية. على الرغم من أن هذه السمة تعتبر طبيعية في مرحلة الطفولة، إلا أن تأثيراتها قد تتفاوت بناءً على كيفية تعامل البيئة المحيطة مع الطفل:

1. الأنانية والتمسك بالممتلكات:
   قد يظهر الطفل سلوكًا أنانيًا، حيث يميل إلى امتلاك الأشياء الخاصة به وعدم مشاركة الآخرين. هذا السلوك يرتبط ارتباطًا مباشرًا بفكرة أن كل شيء يخصه شخصيًا وأن الآخرين يجب أن يتفهموا ذلك.

2. صعوبة التفاهم مع الآخرين:
   بما أن الطفل في هذه المرحلة يميل إلى تفسير العالم وفقًا لمشاعره الشخصية، قد يواجه صعوبة في التعاطف مع الآخرين أو في فهم مشاعرهم، مما يؤدي إلى قلة الوعي بمشاعر الأقران. قد يعتقد الطفل، على سبيل المثال، أن الجميع يعتقدون كما يعتقد هو.

3. ردود الفعل المبالغ فيها:
   في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي التمركز حول الذات إلى ردود فعل مبالغ فيها عندما يشعر الطفل أن اهتمامه أو مشاعره قد تم تجاهلها. قد يكون في هذه الحالة أكثر حساسية للنقد أو الرفض، لأنه يرى نفسه مركزًا لكل ما يدور حوله.

4. التنافسية المفرطة:
   يشعر الطفل في هذه المرحلة بالحاجة إلى التفوق على الآخرين ليشعر بالأهمية. وبالتالي، قد يظهر سلوك تنافسي مفرط أو رغبة في إثبات الذات باستمرار، وهو سلوك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتمركز حول الذات.

كيفية التعامل مع التمركز حول الذات عند الأطفال

يمكن للآباء والمربين اتخاذ بعض الإجراءات لتوجيه سلوك الأطفال بشكل صحيح وتطوير مهاراتهم الاجتماعية، بحيث يصبحون قادرين على التفكير بوجهات نظر متعددة:

1. تعليم التعاطف:
   من المهم أن يتعلم الأطفال كيف يشعر الآخرون وكيف يمكن أن تتباين المشاعر والأفكار من شخص لآخر. يمكن للآباء أن يوجهوا الأطفال من خلال التحدث عن مشاعر الآخرين وكيفية الرد بطريقة تعكس فهمًا للآخرين.

2. تعزيز مهارات التواصل الاجتماعي:
   يجب أن يتم تشجيع الأطفال على التفاعل مع أقرانهم بشكل مستمر في بيئات مختلفة، سواء كان ذلك في المدرسة أو في الأنشطة الاجتماعية الأخرى. يساعد ذلك الأطفال في تعلم كيفية التفاعل مع الآخرين وفهم مشاعرهم.

3. استخدام القصص والمواقف التعليمية:
   تعتبر القصص وسيلة فعالة لتعليم الأطفال حول التعاطف والاحترام المتبادل. يمكن استخدام القصص التي تعرض وجهات نظر متعددة وتعليم الطفل كيف يمكن أن تؤثر أفعالهم في الآخرين.

4. تشجيع التعاون والمشاركة:
   يمكن للآباء والمربين تشجيع الأطفال على التعاون والعمل الجماعي. يجب أن يكون الأطفال قادرين على التعرف على أهمية التشارك في الأشياء ومساعدتهم على تطوير فهم أعمق للاحتياجات والرغبات المختلفة للآخرين.

5. تعزيز الوعي الذاتي:
   من خلال الأنشطة التي تشجع على التفكير الذاتي والتأمل، يمكن للطفل أن يبدأ في فهم كيفية تأثير تصرفاته على الآخرين. يمكن أن تشمل هذه الأنشطة التحدث مع الطفل عن مشاعره وأفكاره، وتوجيهه نحو فحص هذه الأفكار.

الخلاصة

إن التمركز حول الذات هو مرحلة طبيعية من مراحل النمو المعرفي عند الأطفال، ويعد جزءًا لا يتجزأ من التطور النفسي لهم. فهم هذه الظاهرة بشكل عميق يساعد في تقديم الدعم الكافي للأطفال في مراحل نموهم المختلفة. من خلال التوجيه المناسب، يمكن تحويل هذه السمة إلى فرصة لتعزيز قدراتهم الاجتماعية والعاطفية، مما يسهم في تنمية شخصياتهم بشكل متوازن وصحي.