علاقة الإنسان بالبيئة في الإسلام

علاقة الإنسان بالبيئة في الإسلام

لقد أسس الإسلام علاقة متكاملة بين الإنسان والبيئة تقوم على مبادئ التوازن، والتكليف، والخلافة، والرعاية، وهي علاقة لا تستند فقط إلى الاحتياج المادي، بل تشمل جوانب روحية، أخلاقية، وسلوكية، تجعل من حماية البيئة والمحافظة عليها واجبًا دينيًا وأخلاقيًا. فالإنسان في المنظور الإسلامي ليس كائنًا منفصلاً عن بيئته، بل هو جزء منها ومؤتمن عليها ومسؤول عن تصرفاته تجاهها، وسيُسأل عن إسرافه، أو فساده فيها.

الخلافة في الأرض وأمانة البيئة

أول لبنة في علاقة الإنسان بالبيئة في الإسلام هي مفهوم “الخلافة”، وهو أحد المحاور الأساسية في القرآن الكريم. فقد قال الله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]. وهذه الخلافة تعني نيابة الإنسان عن الله في عمارة الأرض وفق أوامره، لا وفق هواه. فالخليفة لا يملك الأرض، بل يتصرف فيها بما يرضي الله تعالى، ويحافظ على توازنها وسلامتها. البيئة جزء من هذا التكليف الإلهي الذي يجب أن يتعامل معه الإنسان بعقل راشد، وإرادة مسؤولة، وأخلاق قويمة.

التوازن البيئي في القرآن والسنة

القرآن الكريم زاخر بالآيات التي تشير إلى توازن البيئة وارتباط عناصرها بعضها ببعض بطريقة دقيقة. قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2]، وقال في موضع آخر: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 7]. هذا الميزان يشير إلى التوازن العام في الكون، وهو توازن دقيق لا يجوز الإخلال به، لأن ذلك سيؤدي إلى فساد كبير يؤثر على كل مظاهر الحياة.

وفي السنة النبوية، نجد أحاديث كثيرة تحض على عدم الإفساد في الأرض، منها قول النبي ﷺ: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» [رواه أبو داود]. وهذا الحديث يشير إلى قيمة النظافة العامة، واحترام أماكن تجمع الناس والموارد الطبيعية.

البيئة كنعمة ومورد يجب احترامه

من المنظور الإسلامي، تُعد البيئة نعمة من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى، ولذلك فإن شكر هذه النعمة لا يكون بالكلام فقط، بل بحسن استخدامها، وتجنب تلويثها، أو الإضرار بها. الماء، على سبيل المثال، ذكره الله في القرآن في أكثر من ستين موضعًا، وأشار إلى كونه مصدر الحياة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30].

وقد شدد النبي ﷺ على الاقتصاد في استخدام الماء حتى في حالة الوفرة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النبي ﷺ مرّ بسعد وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السرف؟» فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهر جارٍ» [رواه ابن ماجه].

النظافة وحماية البيئة

النظافة جزء لا يتجزأ من العبادة في الإسلام، وهي تبدأ من الطهارة الشخصية إلى طهارة الأماكن العامة. قال النبي ﷺ: «الطهور شطر الإيمان» [رواه مسلم]. والاهتمام بالنظافة هو في جوهره اهتمام بصحة الإنسان، وبجمال البيئة، وبسلامة الكائنات الأخرى التي تشاركه العيش.

ولا يقتصر الأمر على نظافة الإنسان، بل يشمل نظافة الشوارع، والبيوت، والمرافق العامة. فالنبي ﷺ قال: «عرضت عليّ أعمال أمتي، حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق» [رواه مسلم]. وهو توجيه واضح لاحترام المجال العام.

التشجير والمحافظة على الغطاء النباتي

الإسلام شجع على زراعة الأشجار، والعناية بالنباتات، لما لها من فوائد جليلة على البيئة والإنسان والحيوان. قال النبي ﷺ: «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، أو دابة، أو طير، إلا كان له صدقة» [رواه البخاري ومسلم]. وهذا الحث ليس مرتبطًا بمردود مادي مباشر، بل بأجر دائم حتى بعد موت الزارع.

وفي حديث آخر قال النبي ﷺ: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها» [رواه أحمد]. وهذا يُعدّ من أبلغ ما قيل في حب الحياة والإصرار على الإعمار، ولو في أحلك الظروف.

النهي عن الإفساد في الأرض

الفساد في الأرض محرم في الشريعة الإسلامية، ويشمل كل أشكال الإضرار بالبيئة، من تلويث الماء والهواء، إلى قطع الأشجار، وقتل الحيوانات عبثًا. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف: 56].

وهذا النهي يتضمن مسؤولية فردية وجماعية، ويجعل من التصرف البيئي غير المسؤول فعلًا مذمومًا شرعًا ومجتمعًا. فكل فرد مسؤول عن بيئته المباشرة، بدءًا من بيته وشارعه، وصولًا إلى مصادر المياه والغابات.

الرفق بالحيوان كجزء من حفظ البيئة

رفق الإسلام بالحيوان جزء لا يتجزأ من نظرته المتكاملة للبيئة. فالحيوان كائن حي له الحق في الحياة الكريمة، والابتعاد عن التعذيب أو القتل العبثي. وقد قال رسول الله ﷺ: «في كل كبد رطبة أجر» [رواه البخاري]. أي أن إطعام الحيوانات، وسقيها، والرفق بها، هو عمل يُثاب عليه الإنسان.

وحذر الإسلام من تعذيب الحيوانات أو حبسها حتى الموت، كما في الحديث المشهور عن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض.

الموارد الطبيعية والأمانة الجماعية

الهواء، والماء، والمعادن، والنفط، وغيرها من الموارد، تُعدّ في الشريعة الإسلامية من “الحقوق الجماعية” التي لا يجوز احتكارها أو استغلالها بما يضر الجماعة أو البيئة. فالموارد الطبيعية ليست ملكًا فرديًا مطلقًا، بل تُدار ضمن منظومة العدل والمصلحة العامة. قال النبي ﷺ: «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار» [رواه أبو داود].

هذا المفهوم يحض على تنظيم استهلاك الموارد، ووضع السياسات التي تضمن استدامتها للأجيال القادمة، وهو ما يعرف في المفهوم الحديث بالتنمية المستدامة، وقد سبق إليه الإسلام منذ قرون.

الزهد والتقشف في الاستهلاك

الزهد في الإسلام لا يعني الحرمان، وإنما يعني الاعتدال في الاستهلاك، وتجنب الترف والإسراف. قال الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]. وهذا المبدأ يُسهم في حماية البيئة من الإفراط في الإنتاج، وما يترتب عليه من استنزاف للموارد، وتلويث للبيئة.

كما أن هذا السلوك الفردي ينعكس إيجابًا على المجتمع، ويقلل من الفجوة بين الطبقات، ويحد من الاستهلاك المفرط للطاقة والماء والموارد الطبيعية.

الجدول التالي يلخص العلاقة بين الإنسان والبيئة في الإسلام:

الخلاصة

لقد قدّم الإسلام تصورًا شاملًا للعلاقة بين الإنسان والبيئة، تصورًا لا يُجزئ المصلحة البيئية عن البعد الروحي والأخلاقي للإنسان. فالبيئة ليست مجالًا للاستغلال الأعمى، بل ميدانًا للعبادة والتقرب إلى الله من خلال عمارتها، وحمايتها، والإحسان إلى مكوناتها.

ولأن الإنسان خليفة الله في الأرض، فإنه محاسب عن كل فعل يؤثر سلبًا أو إيجابًا على البيئة، سواء أكان فعلًا مباشرًا كالقطع أو التلويث، أو غير مباشر كالصمت عن الظلم البيئي أو دعم السياسات المسيئة للبيئة. إن الرؤية الإسلامية للبيئة تقدم قاعدة صلبة لتحقيق التوازن بين التنمية المستدامة والحفاظ على الكوكب.

المراجع:

1. محمد قطب، “رؤية إسلامية للكون والحياة”، دار الشروق.

2. وهبة الزحيلي، “الفقه الإسلامي وأدلته”، دار الفكر.