كم النقود التي يمكن أن تتقاضاها الأم؟

تحليل اقتصادي واجتماعي موسّع لدور الأم وقيمته المالية في المجتمع

في عالمٍ تتشابك فيه الأدوار الاجتماعية مع الأبعاد الاقتصادية، يبقى دور الأم أحد أكثر الأدوار الإنسانية مركزيةً وتأثيراً، ومع ذلك فإنه غالباً ما يُنظر إليه على أنه “غير مدفوع الأجر”. إنّ تقدير العمل الذي تقوم به الأم داخل المنزل، سواء في تربية الأطفال أو في إدارة شؤون الأسرة اليومية، لا يحظى بالقيمة المالية التي يستحقها في كثير من الثقافات والمجتمعات. غير أن هذا المفهوم بدأ يتغير تدريجياً مع تنامي الوعي المجتمعي والاقتصادي بأهمية الأعمال المنزلية ورعايتها، وضرورة إدخالها في الحسابات الاقتصادية الرسمية.

في هذا المقال، سيتم تفكيك الجوانب المتعددة التي يمكن من خلالها تقييم العمل الذي تؤديه الأم، وتحويله إلى قيمة نقدية قابلة للتقدير، باستخدام مناهج متعددة تشمل الحسابات الاقتصادية، التحليل الاجتماعي، والنماذج الدولية التي حاولت بالفعل إعطاء هذا الدور ما يستحقه من قيمة مالية.

العمل غير المرئي: عبء مزدوج ومسؤولية مستمرة

الأم في الغالب تتحمّل عبء “العمل غير المرئي”، وهو العمل الذي لا يُدرج في سجلات الدخل القومي ولا يعترف به في أسواق العمل، رغم كونه يتطلب وقتاً وجهداً ومعرفة لا تقل أهمية عن أي وظيفة رسمية. ويشمل هذا العمل:

• رعاية الأطفال وتعليمهم

• إعداد الطعام وتنظيم الوجبات

• تنظيف المنزل وغسل الملابس

• إدارة الميزانية المنزلية

• الرعاية الصحية الأولية لأفراد الأسرة

• الدعم النفسي والعاطفي لجميع أفراد الأسرة

كل واحدة من هذه المهام، عند تعيين شخص خارجي لأدائها، تتطلب أجراً مستقلاً في السوق. وعليه، فإن الأم تؤدي مجموعة من الوظائف بشكل يومي دون أجر، بينما يُدفع للآخرين مقابلاً لها.

تقدير قيمة الأجر للأم وفق النماذج الاقتصادية العالمية

أجرت عدة منظمات دراسات لمحاولة تقدير الراتب “الافتراضي” الذي تستحقه الأم بناءً على المهام التي تؤديها داخل المنزل. إحدى أشهر هذه الدراسات قامت بها منظمة Salary.com التي قدرت أن متوسط الأجر السنوي للأم التي لا تعمل خارج المنزل قد يصل إلى حوالي 160,000 دولار أمريكي سنوياً إذا احتُسب أجر كل وظيفة تقوم بها وفقاً لأسعار السوق الأمريكية.

ورغم أن هذا الرقم يختلف من بلد لآخر بحسب الأجور المحلية وتكاليف المعيشة، فإن المنهجية المعتمدة توفر نموذجاً مفيداً للتقدير المالي لدور الأم.

جدول يوضح المهام اليومية للأم وقيمتها المالية التقديرية الشهرية بالدولار الأمريكي (وفقاً لأسعار السوق الدولية):

بالاعتماد على هذا النموذج، يمكن القول إن الأم تستحق شهرياً ما يعادل أكثر من 6,000 دولار مقابل الأعمال التي تؤديها، أي ما يقارب 72,000 دولار سنوياً، دون احتساب القيمة العاطفية والنفسية.

السياق العربي: تجاهل رسمي لقيمة عمل الأم

في كثير من الدول العربية، ما زال عمل الأم داخل المنزل يُنظر إليه بوصفه “واجباً طبيعياً”، وليس “خدمة ذات قيمة اقتصادية”. ولهذا، فإن الغالبية العظمى من النساء اللواتي يكرسن حياتهن للأمومة لا يُحتسب لهن أي دخل، ولا تُمنح لهن أي حماية اجتماعية (مثل التأمين الصحي أو التقاعد) مقابل هذا العمل.

غياب هذا الاعتراف الرسمي يؤدي إلى:

• تهميش اقتصادي للمرأة

• انعدام الحماية الاجتماعية عند الكِبر أو التقاعد

• استمرار النظرة الدونية لدور الأمومة كمجرد التزام بيولوجي

ومن هنا، فإن إعادة الاعتبار الاقتصادي لعمل الأم داخل الأسرة يعتبر مسألة عدالة اجتماعية وليست ترفاً فكرياً.

أمثلة دولية على سياسات تعويضية للأمهات

رغم محدودية السياسات الدولية في هذا المجال، فقد بدأت بعض الدول في اتخاذ خطوات لتعويض الأمهات عن العمل المنزلي. على سبيل المثال:

• كندا: تقدم برامج دعم للأمهات تشمل إعانات شهرية لكل طفل، بالإضافة إلى إجازة أمومة مدفوعة.

• فرنسا: توفر دعماً مادياً للأمهات اللاتي يقررن التفرغ لتربية أبنائهن من خلال إعانات تسمى Allocation de parent isolé.

• ألمانيا: تقدم إعانات نقدية للآباء والأمهات الذين يقررون البقاء في المنزل مع أطفالهم في السنوات الأولى.

• النرويج: تعتمد نظام الراتب الأبوي/الأمومي لمن يتفرغ لرعاية الأطفال حتى سن معينة.

هذه السياسات لا تعتبر الأجر الكامل للأم، لكنها على الأقل تعترف بأن هناك قيمة اقتصادية يجب تعويضها.

التكلفة الاجتماعية لعدم دفع أجور للأمهات

إن تجاهل القيمة الاقتصادية للعمل الذي تقوم به الأمهات داخل المنازل يحمل في طياته آثاراً اجتماعية واقتصادية سلبية، منها:

• انخفاض معدلات المشاركة النسائية في القوى العاملة الرسمية
  
  إذ تتفرغ العديد من النساء تماماً لتربية الأطفال، مما يخرجهن من الحسابات الاقتصادية الرسمية.

• ضعف الاستقلال المالي للنساء
  
  ما يجعلهن في موقع هشّ داخل الأسرة، خصوصاً في حالات الطلاق أو وفاة المعيل.

• انخفاض معدل النمو الاقتصادي الكلي
  
  بسبب عدم احتساب الإنتاج المنزلي ضمن الناتج المحلي الإجمالي.

اقتراحات لتقدير الأجر العادل للأم

هناك عدة طرق يمكن عبرها تعويض الأم عن دورها المهم داخل الأسرة:

1. إدراج العمل المنزلي ضمن الناتج القومي
   
   وهذا يتطلب تطوير منهجيات لقياس هذا العمل بشكل دقيق ومستمر.

2. إنشاء برامج دعم نقدي مباشر للأمهات
   
   وخصوصاً لمن يتفرغن كلياً لتربية الأطفال دون عمل رسمي.

3. ربط الأمومة بأنظمة التأمين الصحي والتقاعد
   
   بحيث يُحتسب لها الوقت الذي قضته في التربية ضمن سنوات الخدمة.

4. إصدار شهادات عمل للأمهات المتفرغات
   
   يمكن أن تُستخدم لاحقاً في العودة إلى سوق العمل، أو عند طلب دعم مالي.

الجانب العاطفي والنفسي: ما لا يمكن تقديره بالمال

رغم أهمية التقديرات المالية، فإن هناك جانباً في الأمومة لا يمكن لأي نموذج اقتصادي أن يحيط به. فالحب غير المشروط، والرعاية النفسية، والاحتضان المستمر، والتوجيه التربوي، هي عناصر لا يمكن تحويلها إلى معادلات حسابية. ومع ذلك، فإن إدخال هذه الاعتبارات في الخطاب العام يسهم في تعميق فهم المجتمع لأهمية الأمومة كعملية شاملة تمسّ بناء الأفراد والمجتمعات.

خاتمة تحليلية

الحديث عن “كم النقود التي يمكن أن تتقاضاها الأم” ليس مجرد نقاش رمزي أو مجازي، بل هو خطوة ضرورية نحو إعادة بناء أنظمة اقتصادية أكثر عدالة وشمولية. إن الاعتراف بقيمة عمل الأم لا يعني فقط منحها مالاً، بل يشير إلى إعادة تقييم شاملة للأدوار التي لا تُرى لكنها تحافظ على استقرار المجتمع من الداخل. في عالم تتغير فيه القيم الاجتماعية والاقتصادية بسرعة، يبقى إنصاف الأم أحد المعايير التي تُقاس بها إنسانية المجتمعات وعدالتها.

المراجع:

1. Salary.com. Mom Salary Survey. https://www.salary.com

2. UN Women. The Value of Unpaid Care and Domestic Work. https://www.unwomen.org