كيف نجعل طفلنا يتعلم الإيثار

إنَّ غرس قيمة الإيثار في نفوس الأطفال يُعدّ من الركائز التربوية الأصيلة التي تقوم عليها المجتمعات المتماسكة والمتكافلة. فالإيثار ليس مجرد سلوك عابر، بل هو قيمة عميقة تجسِّد التسامي على النزعة الفردية وتُعلي من شأن التضامن الإنساني. الطفل الذي يتربى على حب الخير للآخرين، وتقديم مصالحهم أحيانًا على مصلحته، هو طفل مرشّح لأن يكون إنسانًا صالحًا، فاعلًا في مجتمعه، مؤهّلًا لبناء علاقات قائمة على الاحترام والتقدير المتبادل. غير أن هذا الهدف التربوي الرفيع يتطلب وعيًا تامًا من الأهل والمربين بطبيعة الإيثار، وأساليبه التربوية، ومراحله النفسية، والوسائل الفعالة لترسيخه في وجدان الطفل منذ سنواته الأولى.

تعريف الإيثار وأبعاده النفسية

الإيثار في اللغة هو تفضيل الغير على النفس في النفع أو دفع الضرر، أما في السياق النفسي والتربوي، فهو قدرة الفرد على تقديم احتياجات أو راحة الآخرين على حساب رغباته الشخصية، دون أن ينتظر مقابلاً ماديًا أو معنويًا. ويعدّ الإيثار من أرقى درجات التعاطف الاجتماعي الذي يتطلب نضجًا وجدانيًا، وتوازنًا في الشعور بالذات والآخر.

الإيثار يرتبط بمفاهيم نفسية متعددة مثل: التعاطف، التسامح، حب الخير، الإحساس بالانتماء، والوعي بالمسؤولية تجاه الجماعة. الطفل الذي ينمو في بيئة تعزز هذه المفاهيم يكون أكثر استعدادًا لتبني سلوكيات الإيثار.

المرحلة العمرية المناسبة لغرس الإيثار

تشير الأبحاث النفسية إلى أن بذور الإيثار تبدأ في الظهور عند الطفل في سن مبكرة، تحديدًا ما بين العامين الثاني والرابع، حين يبدأ الطفل في التعرف على مشاعر الآخرين، ويفهم تدريجيًا أن الآخر يمكن أن يشعر بالحزن أو الألم كما يشعر هو. في هذه المرحلة، يمكن للأهل أن يستثمروا في بناء الأساس العاطفي للإيثار، ثم يعززونه خلال سنوات الطفولة المتوسطة والمتقدمة عن طريق الممارسة والسلوكيات الموجهة.

دور الأسرة في تنمية الإيثار

الأسرة هي البيئة الأولى التي يتشكل فيها وعي الطفل بقيم الخير والشر، العطاء والأنانية، الإيثار والاستئثار. ومن هنا فإن المسؤولية الأولى تقع على عاتق الوالدين في ترجمة قيمة الإيثار إلى سلوك يومي عملي يراه الطفل ويتفاعل معه.

القدوة الصالحة

يُعدُّ تقديم القدوة الصالحة من أهم الوسائل التربوية لغرس الإيثار. الطفل يتعلّم من خلال الملاحظة أكثر مما يتعلم من خلال التوجيه المباشر. حين يرى الطفل والده يُفضّل الآخرين، أو والدته تعطي من وقتها واهتمامها للغير دون أن تنتظر مقابلاً، فإنه يستبطن هذا النموذج السلوكي ويعيد إنتاجه في مواقفه المختلفة.

الحوار الواعي

الحوار مع الطفل حول معاني الإيثار، وأهميته في العلاقات الإنسانية، يسهم في بناء وعيه الفكري بالقيمة. يجب أن يكون الحوار بسيطًا، يتناسب مع مستوى إدراك الطفل، مع استخدام القصص والمواقف الواقعية لتعزيز الفهم.

تشجيع السلوك الإيثاري

ينبغي على الوالدين الإشادة بسلوك الطفل الإيثاري عندما يُقدِم على تصرف نبيل تجاه أحد إخوته أو أصدقائه. هذا التعزيز الإيجابي يعزّز لديه الرغبة في تكرار الفعل، كما يُشعره بقيمته الذاتية.

وسائل عملية لغرس الإيثار

يمكن للأسرة والمربين في المؤسسات التعليمية استخدام مجموعة من الوسائل العملية لتعزيز سلوك الإيثار لدى الأطفال. من أهم هذه الوسائل:

الأنشطة التعاونية

الأنشطة الجماعية التي تتطلب التعاون والمشاركة تُعتبر بيئة مثالية لتعليم الطفل كيفية العمل من أجل مصلحة الجميع، وتقديم بعض التنازلات أحيانًا من أجل تحقيق هدف مشترك. الألعاب الجماعية، الأنشطة الفنية، الأعمال التطوعية الصغيرة في المدرسة، كلها فرص لغرس هذه القيمة.

تشجيع التبرع والمساعدة

توفير الفرص للطفل للمشاركة في أعمال الخير مثل التبرع بالملابس، إحضار الطعام للمحتاجين، أو تقديم المساعدة في تنظيف المنزل، كلها ممارسات تُعلّمه أن العطاء لا يقتصر على الأقوال، بل يجب أن يكون فعلًا ملموسًا.

سرد القصص الأخلاقية

القصص التي تتناول مواقف إيثارية لأبطال يُحبهم الطفل تخلق لديه ارتباطًا وجدانيًا بالسلوك. ينبغي اختيار قصص مشوّقة، تحمل مضمونًا أخلاقيًا واضحًا، مع مناقشة الحدث مع الطفل بعد انتهاء القصة، وربطها بحياته الواقعية.

ممارسة الإيثار داخل البيت

الأسرة التي تسعى لغرس الإيثار ينبغي أن تخلق مواقف يومية داخل المنزل تمكّن الطفل من ممارسته. مثلًا: تقاسم الحلوى مع الإخوة، التنازل عن اللعبة المفضلة لأخيه الصغير، مساعدة الأم في ترتيب المائدة، أو اختيار القناة التلفزيونية بالتناوب.

أثر التعليم الديني في تنمية الإيثار

تلعب التربية الدينية دورًا عظيمًا في ترسيخ القيم الأخلاقية لدى الطفل، والإيثار من القيم الأساسية التي دعا إليها الإسلام وسائر الأديان. فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحثّ على الإيثار، وتُشيد بأهله، يمكن أن تُعرض على الطفل بأسلوب مبسط يساعده على إدراك المعنى الروحي لهذا السلوك.

من الآيات التي يمكن تعليمها للطفل:

﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ [الحشر: 9]

كما يُمكن سرد المواقف النبوية التي تجسّد الإيثار، مثل موقف الصحابي الذي قدّم طعامه للضيف رغم حاجته إليه، أو قصة الأنصار والمهاجرين الذين تقاسموا البيوت والرزق.

علاقة الإيثار بالذكاء العاطفي

تشير الدراسات التربوية الحديثة إلى أن الإيثار يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الذكاء العاطفي لدى الطفل، والذي يشمل مهارات مثل التعاطف، فهم مشاعر الآخرين، والقدرة على تنظيم المشاعر الذاتية. الطفل الإيثاري يتمتع غالبًا بدرجة أعلى من الوعي الاجتماعي، ويكون أكثر قدرة على بناء علاقات إيجابية ومستقرة.

من هنا تأتي أهمية العمل على تنمية الذكاء العاطفي إلى جانب القيم الأخلاقية، لأن كلًا منهما يُعزز الآخر. يمكن القيام بذلك من خلال تدريب الطفل على تسمية مشاعره، فهم مشاعر الآخرين، والتفاعل معهم بلطف وتفهّم.

تأثير المدرسة والمجتمع

إلى جانب الأسرة، تلعب المدرسة دورًا بالغ الأهمية في تشكيل القيم الاجتماعية لدى الطفل. المعلمون الذين يُمارسون الإيثار في تعاملهم مع الطلاب، ويشجعون عليه من خلال المواقف الصفية والنشاطات اللاصفية، يسهمون في تعزيز القيمة في نفوس التلاميذ.

كما أن المجتمع الأوسع، من خلال الإعلام، والأنشطة الثقافية، والمؤسسات الخيرية، يستطيع أن يكون بيئة داعمة لغرس الإيثار. فكلما زادت مشاهدات الطفل لسلوكيات إيثارية في محيطه، كلما كانت استجابته أكثر عمقًا وفاعلية.

الإيثار وعلاقته بالنمو الأخلاقي

الإيثار لا يمكن النظر إليه باعتباره سلوكًا عفويًا فقط، بل هو مؤشر على تطوّر الطفل في سلّم النمو الأخلاقي، حسب نماذج مثل نموذج “لورنس كولبرغ” الذي يُقسّم مراحل النمو الأخلاقي إلى ست مراحل. الطفل الذي يُظهر استعدادًا للإيثار دون مكافأة، يكون قد بلغ مراحل عليا من الفهم الأخلاقي، تتجاوز المنفعة الذاتية والعقاب والثواب إلى إدراك القيم المجتمعية العليا.

الجدول التالي يوضح مراحل تطور مفهوم الإيثار حسب عمر الطفل:

العوائق التي قد تُضعف سلوك الإيثار

رغم كل الجهود المبذولة، قد تواجه الأسرة والمعلمون بعض التحديات التي تُعيق نمو الإيثار لدى الطفل، منها:

• البيئة المادية المفرطة: التي تُشجّع على الاستهلاك والأنانية.

• أسلوب التربية العقابي: الذي يُولّد مشاعر الخوف ويُضعف القدرة على التعاطف.

• الإهمال العاطفي: الذي يُربك النمو الوجداني لدى الطفل.

• النماذج السلبية: سواء في الأسرة أو في الإعلام.

خاتمة

تعليم الطفل الإيثار ليس مهمة عابرة، بل هو مشروع تربوي متكامل يتطلب وعيًا وصبرًا وتخطيطًا طويل المدى. حين نزرع في قلوب أطفالنا هذه القيمة، فإننا لا نصنع فردًا صالحًا فقط، بل نؤسس لجيل أكثر إنسانية، قادر على بناء مجتمعات يسودها التعاون والتعاطف والتضامن.

المراجع:

1. Piaget, Jean. The Moral Judgment of the Child. Routledge, 1997.

2. Hoffman, Martin L. Empathy and Moral Development: Implications for Caring and Justice. Cambridge University Press, 2000.