بيكاسو وأشهر لوحاته

لوحة غيرنيكا: أعظم أعمال بابلو بيكاسو وتاريخها الفني والسياسي والإنساني

تُعد لوحة “غيرنيكا” (Guernica) واحدة من أكثر الأعمال الفنية شهرة وتأثيراً في القرن العشرين، وواحدة من أهم أعمال الفنان الإسباني بابلو بيكاسو، بل يمكن القول إنها اللوحة الأشهر في مسيرته التي اتسمت بالتجديد والتجريب الدائم في مختلف المدارس الفنية، وعلى رأسها التكعيبية. لا تقتصر أهمية “غيرنيكا” على كونها عملاً فنياً بديعاً من الناحية الجمالية والبصرية، بل تتجاوز ذلك لتكون بياناً سياسياً غاضباً وإدانة صريحة لوحشية الحرب وتدمير الأرواح والإنسانية.

يأتي هذا المقال ليغوص بعمق في خبايا هذه اللوحة، من حيث سياقها التاريخي والرسائل التي أراد بيكاسو إيصالها، إلى رموزها الفنية، وتأثيرها على عالم الفن والسياسة والثقافة العالمية، وكل ذلك بأسلوب تحليلي موثق وسرد علمي دقيق يعكس القيمة الكبرى لهذا العمل الفريد.

أولاً: السياق التاريخي للوحة غيرنيكا

في عام 1937، وفي خضم الحرب الأهلية الإسبانية، قامت القوات الجوية النازية الألمانية بالتنسيق مع القوات الإيطالية الفاشية بقصف مدينة غيرنيكا، الواقعة في إقليم الباسك شمال إسبانيا، دعماً للجنرال فرانسيسكو فرانكو ضد الحكومة الجمهورية المنتخبة. استُهدف المدنيون في هذا القصف الوحشي الذي استمر لساعات، وأدى إلى مئات القتلى من الأبرياء، في واحدة من أبشع جرائم الحرب في التاريخ المعاصر.

كان بيكاسو، الذي عاش في باريس آنذاك، يتابع الأوضاع السياسية في بلده بقلق كبير. وبعد اطلاعه على تقارير القصف الوحشي من الصحافة العالمية، شعر بالغضب العميق، وقرر أن يُخلد هذه المجزرة من خلال الفن. وفي أقل من شهرين، أنجز واحدة من أعظم لوحاته: “غيرنيكا”، والتي عُرضت لأول مرة في جناح إسبانيا في المعرض الدولي للفنون والتقنيات في باريس عام 1937.

ثانياً: الخصائص الفنية والتقنية للوحة

تبلغ أبعاد لوحة “غيرنيكا” حوالي 3.5 متر ارتفاعاً و7.8 متر عرضاً، مما يمنحها طابعاً ملحمياً يضاهي الكوارث الكبرى التي ترويها. استخدم بيكاسو الألوان الأحادية (تدرجات الأبيض والأسود والرمادي) ليضفي على العمل طابع الحزن والكآبة، وليُجرده من أية عناصر زينة قد تشتت الانتباه عن فظاعة المشهد.

تم رسم اللوحة بأسلوب تكعيبي تعبيري، حيث تظهر الأشكال مشوهة ومجزأة، في انعكاس لحالة الانهيار والفوضى التي خلفها القصف. اللافت أن بيكاسو لم يرسم المعركة أو الطائرات أو الجنود، بل ركز على المعاناة الإنسانية في لحظة انفجار العنف، مجسدة في وجوه يائسة، وأجساد ممزقة، وصراخ مكتوم.

ثالثاً: الرموز في اللوحة وتفسير معانيها

تحتوي “غيرنيكا” على عدد كبير من الرموز التي فُسرت بطرق مختلفة، لكنها تلتقي جميعها في محور واحد: تجسيد المعاناة والوحشية واللاجدوى من الحرب. ومن أبرز هذه الرموز:

إن الجمع بين هذه الرموز في فضاء لوحي واحد مشوه ومختنق يخلق تجربة بصرية ومفاهيمية مرعبة، تجعل المشاهد يواجه حقيقة الألم الإنساني في أفظع صوره.

رابعاً: الاستقبال الجماهيري والنقد الفني

عند عرض “غيرنيكا” لأول مرة في المعرض الدولي بباريس، أبهرت اللوحة زوار المعرض، واعتُبرت صرخة ضد الفاشية، ورسالة تضامن مع الضحايا. ثم جالت اللوحة العالم في العديد من المعارض والمتاحف، ما أسهم في زيادة الوعي العالمي بمآسي الحرب الأهلية الإسبانية.

لم تلقَ اللوحة ترحيباً من النظام الفرانكوي بطبيعة الحال، فقد مُنعت من العرض في إسبانيا حتى عام 1981، أي بعد وفاة فرانكو بسنوات، وانتقال البلاد إلى الديمقراطية. كان بيكاسو قد أوصى بألا تُعاد اللوحة إلى وطنه إلا بعد زوال النظام الديكتاتوري. وقد احتُضنت اللوحة أخيراً في متحف “رينا صوفيا” الوطني للفنون المعاصرة في مدريد، حيث لا تزال حتى اليوم معلماً فنياً وسياسياً هاماً.

خامساً: الأثر الثقافي والسياسي للوحة

تجاوز تأثير “غيرنيكا” المجال الفني إلى الساحة السياسية والثقافية العالمية. فقد أصبحت رمزاً عالمياً للسلام، تُرفع صورها في المظاهرات المناهضة للحرب، وتُدرس في المدارس والجامعات كنموذج للفن المقاوم. كما كانت اللوحة موضوعاً لكثير من الأبحاث والدراسات الفنية والفلسفية، ما يكرسها كأحد أركان الذاكرة الجماعية العالمية المناهضة للعنف.

في عام 2003، وقبل غزو العراق، وُضعت نسخة من “غيرنيكا” في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وأُخفيت هذه النسخة مؤقتاً خلال المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول عن نية بلاده شن الحرب، خوفاً من التناقض الأخلاقي الذي قد يسببه هذا المشهد. هذا الحدث، وإن بدا رمزياً، يؤكد قوة اللوحة في فضح التناقضات السياسية، واستفزاز الضمائر.

سادساً: بيكاسو كفنان سياسي ومفكر إنساني

لم تكن “غيرنيكا” حدثاً استثنائياً في حياة بيكاسو فحسب، بل كانت تتويجاً لمواقفه السياسية والفكرية. فرغم أنه لم يكن في شبابه مهتماً بالسياسة، إلا أن مشاهد القمع والحرب دفعته إلى تبني مواقف واضحة. انضم للحزب الشيوعي الفرنسي، ودعم حركات التحرر، وانتقد الديكتاتوريات في بلده وخارجه.

وقد عبّر عن هذا الارتباط العضوي بين الفن والواقع حين قال: “الفنان ليس إنساناً يحق له أن يكون أعمى إزاء العالم، فالفن ليس للزينة أو للترف، بل هو سلاح هجومي ودفاعي في الوقت نفسه ضد العدو.”

سابعاً: استمرارية تأثير اللوحة في الفن المعاصر

أثرت “غيرنيكا” على أجيال من الفنانين والرسامين، الذين رأوا فيها نموذجاً للفن الملتزم، الذي لا يهرب من الواقع بل يواجهه. ويمكن ملاحظة صداها في أعمال فنانين مثل فرنسيس بيكون، وجان دوبوفيه، ودييغو ريفيرا، وفريدا كالو، بل وحتى في الثقافة الشعبية من خلال الرسومات الجدارية، والكاريكاتير السياسي، والسينما.

كما ألهمت الكثير من المبادرات الفنية المناهضة للعنف، مثل مشروع “غيرنيكا غزة” و”غيرنيكا سوريا”، وهي أعمال فنية تصور مآسي الحروب الحديثة باستخدام نفس الأسلوب الرمزي والدرامي الذي استخدمه بيكاسو.

ثامناً: اللوحة في السياق الأكاديمي والتعليمي

تُدرّس “غيرنيكا” في الكثير من المناهج التعليمية حول العالم، ليس فقط كعمل فني، بل كمادة فلسفية وإنسانية. يُنظر إليها في دراسات الفن المعاصر كتحول جوهري في وظيفة الفن من كونه أداة للتعبير الفردي إلى كونه وسيلة للتعبير الجماعي والمقاومة.

وقد أشار العديد من النقاد إلى أن “غيرنيكا” غيّرت من نظرة المجتمع للفن، إذ لم تعد اللوحة مجرد عمل يُعلّق على الجدران، بل أصبحت بياناً يُقرأ ويُفهم ويُحلل على مستويات متعددة، سياسية، إنسانية، جمالية، وأخلاقية.

تاسعاً: الموقع الحالي للوحة وحمايتها القانونية

بعد نقلها من متحف الفن الحديث في نيويورك، عادت “غيرنيكا” إلى إسبانيا لتُعرض في متحف رينا صوفيا بمدريد. وقد وُضعت تحت إجراءات حماية عالية، نظراً لقيمتها الفنية والتاريخية والسياسية. يُمنع تصوير اللوحة بشكل مباشر إلا بموافقة خاصة، كما تُخضع بانتظام لعمليات فحص وصيانة دقيقة.

وقد دعا العديد من القادة والمثقفين الإسبان إلى نقل اللوحة إلى مدينة “غيرنيكا” نفسها، تكريماً للضحايا، لكن القرار لم يُتخذ بعد، نظراً للظروف الأمنية والتقنية.

عاشراً: مصادر إلهام خالدة

إن ما يجعل “غيرنيكا” عملاً فنياً خالداً هو قدرتها على التعبير عن معاناة لا ترتبط بزمن أو مكان معين، بل تُجسد المأساة الإنسانية بكل أبعادها. هي لوحة لا تقتصر على تاريخ الحرب الأهلية الإسبانية، بل تتجاوزها لتصبح صرخة ضد الحروب كافة، في أي زمان ومكان.

لقد صنعت هذه اللوحة توازناً نادراً بين الفن والموقف، بين الشكل والمضمون، بين الصدمة الجمالية والصيحة الأخلاقية. ولهذا لا تزال تحتفظ بمكانتها، لا كعمل فني فقط، بل كوثيقة تاريخية وإنسانية تقف في وجه النسيان.

المراجع:

1. Chipp, Herschel B. Theories of Modern Art. University of California Press, 1968.

2. Richardson, John. A Life of Picasso: The Triumphant Years, 1917-1932. Random House, 2007.