نظريات تعلم الكبار

مقدمة في تعلم الكبار: نظريات التعلم

تعد دراسة تعلم الكبار مجالًا غنيًا ومعقدًا يهم العديد من الباحثين والممارسين في مجالات التعليم والتدريب. تتشابك فيها مجموعة من النظريات والمفاهيم التي تساهم في توضيح كيف يتعلم البالغون، وما العوامل التي تؤثر في هذا التعلم. يتجاوز تعلم الكبار الأساليب التقليدية للتعلم، حيث يتسم بتحديات وفرص خاصة تختلف عن تلك الموجودة في مرحلة التعليم المدرسي. يرتبط هذا النوع من التعلم بالتجربة الشخصية والتوجهات الذاتية، مما يساهم في تشكيل عملية التعلم كظاهرة معقدة ومتجددة.

تتعدد وتتنوع النظريات التي تفسر كيفية تعلم الكبار، وكل منها يقدم رؤية مختلفة للآليات والمبادئ التي تحكم هذه العملية. من أبرز هذه النظريات نجد نظرية “تعلم الكبار” التي طورها مالكولم نولز، ونظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، والنظريات البنائية التي تقدمها العديد من المدارس الفكرية. وفيما يلي سوف نناقش بعضًا من هذه النظريات الأساسية، بالإضافة إلى استعراض العناصر المميزة لتعلم الكبار.

1. نظرية مالكولم نولز: التعلم الذاتي والتعلم القائم على الخبرة

تعتبر نظرية مالكولم نولز من أشهر النظريات في مجال تعليم الكبار. قدم نولز مفهوم “الأندراجوجيا” أو “تعليم الكبار” وهو يشير إلى الطريقة التي يتعلم بها البالغون مقارنة بالطفل. أشار نولز إلى أن البالغين يختلفون عن الأطفال في أساليب التعلم، حيث يمتلكون تجارب حياتية سابقة يمكن الاستفادة منها. وبالتالي، يصبح التعلم بالنسبة لهم عملية ذاتية وموجهة، تستند إلى رغبتهم في تحسين أنفسهم في مجالات معينة.

تتضمن هذه النظرية عدة مبادئ رئيسية:

• التعلم القائم على الخبرة: حيث يمتلك الكبار خبرات حياتية غنية تشكل الأساس الذي يبنون عليه تعلمهم.

• الاستقلالية: يميل الكبار إلى تحمل المسؤولية في تعلمهم ويسعون إلى التعليم الذاتي.

• الاستمرارية: لا ينتهي تعلم الكبار بتجاوز مرحلة معينة، بل يظل مستمرًا طوال حياتهم.

• التركيز على الأهداف: يتسم تعلم الكبار بوجود أهداف محددة وواقعية يرغب المتعلم في تحقيقها.

2. نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا

طرح عالم النفس ألبرت باندورا نظرية التعلم الاجتماعي التي تشير إلى أن الناس يتعلمون من خلال مراقبة الآخرين وتفاعلهم معهم. هذه النظرية تبرز أهمية السياقات الاجتماعية في عملية التعلم وتظهر كيف يمكن للبالغين تعلم سلوكيات جديدة من خلال ملاحظة ومراقبة الأشخاص من حولهم. وفي هذا السياق، يُعتبر المحاكاة (أو التعلم بالملاحظة) أحد أوجه التعلم الفعالة، حيث يقوم الفرد بتقليد سلوك الآخرين الذين يراهم على أنهم قدوة.

أحد المبادئ الأساسية في نظرية باندورا هو التعزيز الاجتماعي، حيث يدعم المدربون أو الأشخاص الآخرون سلوك المتعلم من خلال تقديم الثناء أو المكافآت. كما تؤكد النظرية أيضًا على دور القدرة الذاتية أو الشعور بالقدرة على النجاح، حيث ينظر البالغون إلى مدى قدرتهم على مواجهة التحديات والنجاح في الأهداف التي يحددونها لأنفسهم.

3. النظريات البنائية في تعلم الكبار

تُعد النظرية البنائية من أكثر النظريات تأثيرًا في فهم عملية تعلم الكبار. هذه النظرية ترى أن التعلم هو عملية نشطة يبني خلالها الأفراد معارفهم وتجاربهم استنادًا إلى تفاعلاتهم مع العالم المحيط بهم. ووفقًا للمفكرين مثل جان بياجيه وفيفيان ديوي، فإن الكبار لا يتعلمون من خلال تلقي معلومات جاهزة فقط، بل يبنون معارفهم من خلال التجربة الذاتية.

من أبرز مفاهيم النظرية البنائية:

• التعلم من خلال الحلول العملية: حيث يركز المتعلمون الكبار على كيفية استخدام المعرفة في مواقف حياتهم اليومية.

• التفاعل مع البيئة: يتعلم البالغون من خلال التفاعل مع بيئاتهم الواقعية بدلاً من مجرد تلقي المعلومات في سياق أكاديمي.

• التعلم التعاوني: تعلم الكبار غالبًا ما يتضمن تفاعلات مع الآخرين، حيث يساعدهم التعاون في البناء المشترك للمعرفة.

4. نظرية التعلم الإنسانيات

تعتمد هذه النظرية على المبادئ التي طرحها أبراهام ماسلو وكارل روجرز، والتي تركز على النمو الشخصي والتحقق الذاتي. يرون أن التعلم يتطلب من البالغين أن يشعروا بالقبول والأمان في بيئة التعليم، مما يسمح لهم بالاستكشاف والنمو دون الخوف من الفشل. هذا النمو يتحقق من خلال التعلم القائم على حل المشكلات والتفاعل العاطفي الذي يعزز الفهم العميق.

هذه النظرية تركز على التعلم الذاتي وتحقيق الاستقلالية، حيث أن الأفراد يكونون أكثر استعدادًا لتعلم ما يهمهم شخصيًا أو يلبي احتياجاتهم الحقيقية. كما يَعتبرون أن التقدير الشخصي هو جزء من العملية التعليمية، حيث يمكن أن يؤثر الدعم الاجتماعي والتشجيع في عملية التعلم.

5. نظرية التعلم القائم على المشروع

تعتبر هذه النظرية من أكثر الأساليب ابتكارًا في تعلم الكبار. وهي تركز على تفاعل الأفراد في بيئات تعليمية حقيقية ومتنوعة حيث يتعلمون من خلال مشاريع عملية. بدلاً من تلقي المعلومات النظريّة، يتم تشجيع المتعلمين على العمل على مشاريع حقيقية تؤدي إلى نتائج ملموسة، مما يجعل التعلم أكثر تأثيرًا وملاءمة لحياتهم اليومية.

6. التعلم التحويلي

من بين النظريات المهمة أيضًا في تعليم الكبار هي نظرية “التعلم التحويلي” التي طوّرها جاك ميزور. ترى هذه النظرية أن البالغين لا يتعلمون فقط عن طريق اكتساب معارف جديدة، بل أيضًا عن طريق تحول عميق في طريقة تفكيرهم ورؤيتهم للعالم. يركز هذا النوع من التعلم على تغيير تصورات الأفراد بشكل جذري، وهو يتطلب قدرة على النقد الذاتي والوعي بالظروف الاجتماعية والثقافية التي تؤثر في عملية التعلم.

7. التعلم التفاعلي

التعلم التفاعلي يشير إلى الأساليب التعليمية التي تشجع على التعاون والمشاركة الفعالة بين المتعلمين. في هذا الإطار، يُعتبر تعلم الكبار عملية تشاركية حيث يتبادل الأفراد المعرفة والخبرات من خلال النقاشات والأنشطة الجماعية. هذا النهج يعزز من التفاعل المستمر ويخلق بيئة تعليمية غنية بالفرص لتعلم مهارات جديدة وتبادل الأفكار بين المتعلمين.

8. التعلم المتعدد الحواس

تتجه بعض الدراسات الحديثة إلى أهمية استخدام أساليب التعلم التي تعتمد على تحفيز أكثر من حاسة من حواس المتعلم. حيث يُعتبر تعلم الكبار أكثر فعالية عندما يتم تضمين حواس متعددة في عملية التعليم. فبالإضافة إلى التعلم البصري (من خلال الكتب أو العروض التقديمية)، يشمل التعلم السمعي (من خلال المناقشات أو التسجيلات الصوتية) والتعلم الحركي (من خلال الأنشطة العملية).

الختام

تعلم الكبار يعد عملية معقدة تتداخل فيها العديد من العوامل والنظريات. من خلال النظر إلى هذه النظريات المتنوعة، يتضح أن البالغين ليسوا مجرد متلقين للمعلومات بل هم أفراد نشطون في عملية التعلم، يشكلون معارفهم استنادًا إلى تجاربهم الذاتية والبيئات الاجتماعية التي يحيون فيها. يساعد فهم هذه النظريات في تحسين استراتيجيات التعليم والتدريب الموجهة للبالغين، مما يجعل العملية أكثر فاعلية وملاءمة لاحتياجاتهم الفردية والجماعية.