من أول من نطق بالشعر؟
الشعر هو أداة التعبير الأعرق والأكثر تجذرًا في التاريخ البشري، إذ اعتبره العديد من الحضارات أولى أشكال الفن الأدبي الذي يعبر عن الأحاسيس والأفكار والمشاعر. يظل السؤال عن “من أول من نطق بالشعر؟” واحدًا من الأسئلة التي شغلت الأذهان منذ العصور القديمة، حيث تختلف الآراء وتتعدد التفسيرات حول هذا الموضوع. لفهم هذا السؤال، يجب أن نأخذ في الاعتبار تطور الأدب الشفوي في التاريخ البشري وأهمية الشعر كوسيلة للتعبير عن الذات والمجتمع في كل العصور.
الشعر بين الأسطورة والتاريخ
قبل الحديث عن أول من نطق بالشعر، من المهم أن نتعرف على السياق الثقافي والتاريخي الذي نشأ فيه الشعر. كان الشعر في العصور القديمة وسيلة رئيسية لحفظ التاريخ ونقل المعارف والتقاليد بين الأجيال. كانت المجتمعات في مختلف أنحاء العالم تعتمد بشكل كبير على الشعراء لحفظ أحداث المعارك الكبرى، وأخبار الملوك، وتفاصيل الحياة اليومية. من هنا، يصبح من الصعب تحديد أول من نطق بالشعر بشكل دقيق، لأنه كان جزءًا من ثقافة شفوية قديمة، ولا توجد وثائق أو سجلات واضحة تؤرخ لهذه اللحظات.
ومع ذلك، تحاول العديد من الدراسات التاريخية والأسطورية تحديد الشخصيات الأولى التي قد تكون قد نطقت بالشعر، وهذا يتطلب النظر في الأساطير والقصص التي رافقت ولادة الشعر.
الشعر في أساطير الشعوب القديمة
في العديد من الثقافات، كان يُعتقد أن الشعر نشأ على لسان إله أو كائن عظيم. على سبيل المثال، في الأساطير اليونانية، كان يُعتقد أن الإله أبولو هو إله الشعر والموسيقى، وكان يُعتبر أول من ألهم البشر بالشعر والغناء. في هذه الحالة، يكون الشعر مرتبطًا بالقوة الإلهية، ولا يظهر بالشكل الذي نعرفه اليوم إلا بعد أن ألهمت الآلهة البشرية. تُعتبر الملاحم اليونانية مثل “الإلياذة” و”الأوديسة” التي كتبها هوميروس، إحدى أقدم الأعمال الشعرية التي حفظت تاريخ تلك الحضارة وتقاليدها.
أما في الثقافة السومرية القديمة، فقد كان هناك شعراء مثل “جلجامش”، الذي كتب أحد أقدم النصوص الأدبية في العالم، “ملحمة جلجامش”. رغم أن الملحمة ليست شعرًا بالمعنى الحديث للكلمة، إلا أنها تُعد من أقدم الأعمال الأدبية التي دمجت بين السرد الشعري والتاريخي. هذه الملحمة تحكي قصة البطل السومري جلجامش، الذي يعتبر رمزًا للحكمة والشجاعة، وتدور أحداثها في إطار من الخيال الذي يتشابك مع الواقع.
الشعر عند العرب في العصر الجاهلي
تعتبر اللغة العربية واحدة من أقدم اللغات التي سجلت فيها العديد من الأعمال الشعرية بشكل منظم، وذلك من خلال الشعر الجاهلي الذي ينحدر من قبل الإسلام. في هذا السياق، لا يمكن إنكار الدور الكبير للشعر العربي في تكوين الهوية الثقافية للعرب، حيث كان الشعراء في العصر الجاهلي يشكلون فئة اجتماعية مرموقة تُعتبر بمثابة سجل حافل بالخبرات الاجتماعية والسياسية.
من أبرز الشعراء الجاهليين الذين ذكروا في هذا السياق هو امرؤ القيس، الذي يعتبر من أوائل الشعراء في التاريخ العربي. رغم أن الشعر الجاهلي كان موجودًا قبل امرؤ القيس، فإن شعره كان يمثل قمة الشعر العربي في تلك الفترة. يُقال إن امرؤ القيس قد قام بتطوير أسلوب شعري رقيق ومعقد، قد أسهم في نشر هذا الفن الأدبي بين قبائل العرب.
لكن إذا نظرنا إلى الشعر العربي الأقدم من امرؤ القيس، نجد أن هناك العديد من الشعراء الآخرين الذين سبقوه في كتابة الشعر، مثل الشاعر طرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى، الذين قدموا العديد من القصائد التي تناقش جوانب من الحياة العربية في الجاهلية.
الشعر في الثقافات الأخرى
لا يقتصر الشعر على العرب فقط، بل نجد أن العديد من الثقافات الأخرى كانت قد بدأت في تطوير الشعر منذ وقت مبكر. في الهند، على سبيل المثال، كان الفيدا من أقدم النصوص الأدبية التي تحتوي على أشعار دينية، والتي كُتبت بلغة السنسكريتية القديمة. هذه الأشعار كانت مخصصة للآلهة وكانت جزءًا من الطقوس الدينية التي تُؤدى في المعابد.
أما في الصين، فقد تم توثيق الشعر في أقدم أعمال أدبية مثل “كتاب الأغاني” الذي يعود تاريخه إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. يحتوي هذا الكتاب على مجموعة من الأشعار التي تعبر عن مشاعر الأفراد وتصور حياتهم اليومية والمشاعر الشخصية. وبذلك، يمكن القول إن الشعر في الصين له تاريخ طويل ومعقد.
من أول من نطق بالشعر؟
الحديث عن “من أول من نطق بالشعر” يتطلب منا إعادة النظر في التعريف الذي نقدمه للشعر. إذا اعتبرنا الشعر هو أي شكل من أشكال التعبير المنظم عن المشاعر أو القصص باستخدام لغة موزونة، فإن من الصعب تحديد فرد بعينه كان أول من نطق بالشعر. أما إذا كان السؤال يشير إلى أول من نظم الشعر بشكل مكتوب أو ملحمي، فإن الإجابة ستكون مرهونة بما ذكرناه من تقاليد ثقافية في مناطق متعددة من العالم، مثل الشعر الجاهلي أو الأدب السومري القديم أو حتى الفيدا الهندي.
على الرغم من هذه الصعوبة في التحديد، يمكننا القول أن الشعر تطور عبر آلاف السنين وكان موجودًا بأشكال مختلفة في العديد من الثقافات. في النهاية، يظل الشعر جزءًا من الهوية الإنسانية، وكشفًا عن العمق الداخلي للمجتمعات البشرية في مختلف الأزمان والأماكن.
الشعر وتطور الفكرة الأدبية
منذ العصور القديمة، تطور الشعر ليأخذ أشكالًا متعددة تتماشى مع التغيرات الثقافية والاجتماعية. وفي العصور الحديثة، تحول الشعر إلى أشكال أدبية جديدة، مثل القصائد الحرة والشعر التفاعلي والشعر الملحمي المعاصر. لكن يبقى الشعر كما كان في بداياته، جزءًا من ذاكرة الجماعات، وأداة فنية للتعبير عن المشاعر والأفكار.
تستمر الأبحاث والدراسات حول تطور الشعر وأوائل الشعراء الذين أضافوا بصمتهم التاريخية والثقافية في هذا المجال، ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: “من أول من نطق بالشعر؟” سؤالًا يحمل في طياته الكثير من الأسئلة الفلسفية عن الإنسانية والإبداع. في النهاية، يظل الشعر قوة أساسية في نقل موروثات الثقافات والحضارات الإنسانية عبر العصور.
