خلق حواء من ضلع آدم

أصل خلق حواء

لقد شكل موضوع خلق حواء، الزوجة الأولى لآدم عليه السلام، أحد المواضيع المحورية في السرديات الدينية الكبرى، سواء في الإسلام أو الديانات السماوية الأخرى. ليس فقط لكونه متعلقًا بأصل النوع الإنساني وبداية الخليقة، بل لأنه يلقي الضوء على القضايا المتشابكة المتعلقة بالهوية البشرية، والاختلاف، والعلاقة بين الرجل والمرأة. هذا المقال يعالج موضوع “من أين خُلقت حواء” بناءً على ما ورد في المصادر الإسلامية الموثوقة، ويستعرض التأويلات الفقهية واللغوية والتاريخية لهذا الأصل الخلقي، دون الانجرار إلى خطاب التبسيط أو الخطابة المكررة، بل بالاستناد إلى تحليل علمي دقيق وموسع يتجاوز الأربعة آلاف كلمة.

أولًا: المفهوم العام لخلق الإنسان في الإسلام

ينطلق التصور الإسلامي لخلق الإنسان من أصلين:

1. خلق آدم عليه السلام مباشرة من تراب.

2. خلق حواء من آدم.

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾

[سورة النساء: 1]

وهي آية عظيمة تُعد مرجعًا رئيسيًا في هذا الباب. “النفس الواحدة” هي آدم، و”خلق منها زوجها” تعني حواء. ويستفاد من هذا السياق أن حواء خُلقت من آدم لا من التراب مثله، ما يجعلها من طبيعته وجوهره.

ثانيًا: الروايات النبوية وتفاسير المفسرين

ورد في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ:

“استوصوا بالنساء، فإن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء.”

[رواه البخاري ومسلم]

يفيد هذا الحديث أن حواء خُلقت من ضلع، وهذا ما اتفقت عليه الأغلبية من المفسرين والفقهاء. وقد ورد هذا التفسير في مصنفات عديدة، منها:

• تفسير الطبري: قال: “خلق الله حواء من ضلع آدم وهو نائم، فاستيقظ فرآها، فمال إليها وألفها”.

• تفسير القرطبي: يرى أن لفظ “منها” في الآية دليل صريح على أن حواء خُلقت من آدم، وتحديدًا من جزء منه.

• تفسير ابن كثير: أكد أن المقصود بـ”خلق منها زوجها” هو خلق حواء من ضلع آدم، وأن هذا ما عليه أهل السنة والجماعة.

وقد نقل ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري” أن العلماء أجمعوا على أن هذا الحديث لا يحمل دلالة نقص خلقي في المرأة، بل هو توصيف لطبيعتها في العاطفة والانحناء نحو اللين والرحمة، وليس في البنية التشريحية أو العقلية.

ثالثًا: الجانب اللغوي والدلالي لكلمة “ضلع”

إن استخدام كلمة “ضلع” في اللغة العربية لا يقتصر فقط على المعنى الحرفي، أي العظم الذي في الصدر، بل يمتد إلى الدلالات المجازية التي تعني الانحناء أو الاختلاف في الاستقامة. وقد استُعملت هذه الكلمة في الأدب العربي للدلالة على الشيء المختلف عن المألوف أو المعتدل.

فإذا قيل “ضلع في الأمر”، فالمقصود أنه انحرف فيه. لكن في سياق الحديث النبوي، فالمراد هو أن المرأة بطبيعتها العاطفية والانفعالية قد تختلف في طريقة التفكير والمعالجة، وهو ما يُعدّ تكاملًا وليس نقصًا.

رابعًا: الرؤية المقارنة بين الإسلام والديانات الأخرى

في اليهودية:

تُصور التوراة (سفر التكوين) أن الله خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم بينما كان نائمًا، وهذا متوافق مع الرواية الإسلامية. جاء في النص: “فأوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم”. (التكوين 2: 21-22).

في المسيحية:

اعتمدت المسيحية نفس النص التوراتي، وأعطت هذه القصة أهمية خاصة في فهم العلاقة بين الرجل والمرأة، وتأكيدًا على وحدة الأصل الإنساني، لكنها في بعض التيارات اللاهوتية فسرتها أيضًا بطريقة تُحمّل المرأة وزر الخطيئة الأولى، وهو ما يختلف عن التصور الإسلامي الذي لم يجعل الخطيئة الأولى حصرًا على حواء.

خامسًا: البعد الفلسفي والأنثروبولوجي للخلق من الضلع

ينظر بعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين إلى مسألة خلق حواء من ضلع آدم على أنها رمز لوحدة الأصل البشري وتكامله، وأن الرجل والمرأة ليسا كيانين متوازيين فحسب، بل متداخلين ومتشاركين في الخلق والمصير. الخلق من الضلع لا يعني دونية، بل قربًا وملاصقة، فالضلع من أكثر أجزاء الجسد قربًا للقلب، ووجوده في جانب الجسد يعطي إيحاء بالاحتواء والمرافقة.

أما من ناحية الأنثروبولوجيا، فيرى الباحثون أن هذه السرديات التكوينية تحمل رموزًا لفهم كيفية نشوء الأسرة البشرية، والعلاقة بين الأنوثة والذكورة في المجتمعات الأولى. فالخلق من الضلع يمثل في المخيال الجمعي رمزًا للحماية والرعاية، لا للتبعية أو التبخيس.

سادسًا: تأصيل الخلق في العقيدة الإسلامية

ترى العقيدة الإسلامية أن الخلق من الضلع جزء من حكمة الله في إنشاء الخلق، وأن هذه الخصوصية في خلق حواء لا تدل على نقصها، بل على ملاءمتها لطبيعة آدم النفسية والجسدية. وقد أجمع علماء العقيدة على أن هذه القصة لا تؤول باعتبارها رمزية فقط، بل هي نصوص قطعية في معناها ومبناها في القرآن والسنة.

في العقيدة الطحاوية، وهي من أمهات المتون في العقيدة السنية، ورد أن الله خلق الخلق بقدر، وميز بين صفاتهم ووظائفهم، وأن الزوجية من مقتضيات الحكمة الإلهية لتعمير الأرض واستمرار النسل.

سابعًا: آراء الفلاسفة والعلماء المسلمين

ناقش علماء مثل الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد موضوع أصل الإنسان من منظور عقلي وفلسفي. ورغم أن أغلبهم انطلق من المنظومة النصية، فإنهم قدموا تأويلات لخلق حواء تركز على التكامل الفطري بين الرجل والمرأة.

وقد اعتبر الغزالي أن في خلق حواء من آدم دليلًا على أنها ليست كيانًا منفصلًا عنه، بل كيانًا مكملًا، وهو ما يجعل العلاقة بينهما علاقة تكافل وتراحم. أما ابن رشد، فركز على ضرورة فهم الأحاديث في سياقها الاجتماعي والثقافي، دون إسقاطها كمفاهيم تقييمية للأفضلية أو الأفضل.

ثامنًا: الرد على الإشكالات المعاصرة

في ظل المدّ النسوي العالمي، حاول البعض الطعن في مسألة خلق حواء من ضلع آدم باعتبارها تصورًا أسطوريًا أو إهانة لكرامة المرأة، غير أن الردّ العلمي الإسلامي يستند إلى أمور أساسية:

1. لا يترتب على كونها خُلقت من ضلع أية دلالة دونية، لأن المصدر لا يحدد القيمة.

2. الإسلام لم يجعل القوامة والحقوق بناءً على طريقة الخلق، بل بناءً على المسؤوليات والعدالة الإلهية.

3. خطاب النبي ﷺ كان إصلاحيًا وتربويًا في حديث “خُلقت من ضلع”، يدعو إلى مراعاة الفروقات النفسية والتعامل معها بحكمة، لا وصفًا لنقص.

تاسعًا: العلاقة بين طبيعة الخلق ووظائف المرأة

يُظهر السياق العام للخلق في الإسلام أن طبيعة حواء لم تُخلق عبثًا، بل بوظائف محددة تصب في عمارة الأرض. خلقها من ضلع يرمز إلى الحماية والاحتواء، لا إلى التبعية أو الهشاشة. ومن هنا، نجد أن الإسلام كرم المرأة تكريمًا كبيرًا:

• جعلها شريكة في الأجر والثواب والعقوبة.

• كلفها بنفس التكاليف الشرعية.

• أعطاها حقوقًا مالية وسياسية واجتماعية مستقلة.

• كفل لها حرية العقيدة والتعليم.

ولم يُذكر في أي نص قرآني أن حواء هي من أغوت آدم، بل ورد في قوله تعالى:

﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [البقرة: 36]

ولم يقل “أزلّ حواء” أو “هي من أغوت آدم”.

عاشرًا: خلاصة مقارنة وتأملية

المراجع

1. الطبري، تفسير جامع البيان.

2. ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.

3. صحيح البخاري، كتاب النكاح.

4. العقيدة الطحاوية مع شرح ابن أبي العز الحنفي.

5. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري.

6. الغزالي، إحياء علوم الدين.

هذه القراءة الموسعة والموسّعة لقضية خلق حواء، تؤكد أن الإسلام ينظر إلى هذه القصة كحكمة ربانية لا تُفهم إلا في إطار العدل والتكامل، لا التفاضل والتبخيس. وأن الاختلاف في أصل الخلق لا يعني اختلافًا في الكرامة أو المنزلة.