المراهقة بحاجة إلى التفهم: مرحلة حرجة في تشكيل الإنسان

مقدمة

تُعد مرحلة المراهقة من أكثر المراحل تعقيدًا في حياة الإنسان، حيث تشهد تحولات جذرية تطال الجوانب النفسية، الجسدية، الاجتماعية، والسلوكية. إنها المرحلة الانتقالية التي تفصل بين الطفولة والرشد، وتحمل في طياتها صراعًا داخليًا بين الحاجة إلى الاستقلال والتوق إلى الأمان. ولأنها فترة مليئة بالتناقضات والتقلبات، فإن المراهقين يكونون بحاجة ماسّة إلى التفهم من محيطهم الأسري والاجتماعي والتربوي. إن غياب هذا التفهم قد يعرّض المراهق إلى مشكلات نفسية وانحرافات سلوكية قد تترك آثارًا طويلة الأمد في حياته.

التغيرات التي تطرأ على المراهق

1. التغيرات البيولوجية والهرمونية

خلال فترة المراهقة، يشهد الجسد تغيرات هائلة تتمثل في النضج الجنسي ونمو الأعضاء الثانوية مثل الطول، تغير نبرة الصوت، وظهور الشعر في مناطق جديدة من الجسم. ترافق هذه التغيرات اضطرابات هرمونية تؤثر على الحالة النفسية للمراهق وتزيد من حدة الانفعالات والتقلبات المزاجية.

2. التغيرات النفسية والعاطفية

ينمو لدى المراهق شعور بالهوية الفردية ورغبة في الانفصال عن الوصاية الأبوية، ما يولد في كثير من الأحيان توترًا في العلاقة مع الأهل. كما يبدأ في اختبار مشاعر جديدة كالحب والانجذاب الجنسي والغيرة والطموح، ما يجعله يعيش في حالة من الغليان الداخلي والتناقضات التي لا يفهمها هو نفسه في كثير من الأحيان.

3. التغيرات الاجتماعية

تتسع دائرة العلاقات الاجتماعية للمراهق، وتصبح الصداقة ركيزة أساسية في حياته. يبدأ في تقليد الأقران والسعي للانتماء إلى مجموعة معينة، وقد يضع آراء الأصدقاء فوق آراء العائلة. هذه النزعة نحو الاستقلال والانخراط في الجماعات تؤثر على سلوكياته واختياراته بشكل ملحوظ.

أهمية التفهم في التعامل مع المراهق

1. التفهم يخلق بيئة آمنة

عندما يشعر المراهق بأنه مفهوم ومقبول، ينشأ في بيئة آمنة تتيح له التعبير عن نفسه بحرية، ما يساعده على استكشاف ذاته وتحديد أهدافه دون خوف من الرفض أو الانتقاد. غياب هذا الشعور يدفعه غالبًا إلى الانغلاق على ذاته أو البحث عن بدائل غير صحية للتعبير عن مشاعره.

2. التفهم يحدّ من التمرد والانحراف

التفهم لا يعني التساهل أو غياب الحدود، بل هو إدراك لاحتياجات المراهق وتقديم الدعم المناسب له في الوقت المناسب. عندما يُعامل المراهق بفهم، تقل احتمالية تمرده أو لجوئه إلى السلوكيات المنحرفة كرد فعل على الشعور بالقمع أو الإهمال.

3. التفهم يبني جسور التواصل

المراهقة هي مرحلة بناء الهوية، والتفهم من قبل الوالدين والمربين يسهل هذا البناء. التواصل الفعّال القائم على الاستماع دون إصدار الأحكام يفتح المجال أمام المراهق لمشاركة أفكاره وتساؤلاته، ما يعزز من قدرته على اتخاذ قرارات ناضجة ومسؤولة.

أسباب فشل التفهم عند التعامل مع المراهقين

1. التسلط الأبوي

يميل بعض الآباء إلى فرض السيطرة الصارمة على أبنائهم المراهقين، ظنًّا منهم أن ذلك يحميهم من الوقوع في الخطأ. إلا أن هذا الأسلوب غالبًا ما يولّد شعورًا بالرفض ويدفع المراهق للتمرد أو الانسحاب من العلاقة الأسرية.

2. نقص الوعي النفسي بمرحلة المراهقة

كثير من الأهل يجهلون التعقيدات النفسية التي تصاحب مرحلة المراهقة، ويتعاملون معها كامتداد للطفولة أو كمرحلة مؤقتة لا تستحق العناية. هذا الجهل يؤدي إلى قرارات غير مدروسة تؤثر سلبًا على شخصية المراهق.

3. المقارنة بالآخرين

يقع بعض الأهل في خطأ مقارنة أبنائهم المراهقين بأقرانهم أو حتى بإخوتهم، ما يضعف ثقتهم بأنفسهم ويشعرهم بأنهم غير مقدَّرين أو محبوبين إلا إذا تطابقوا مع معايير غيرهم.

المهارات المطلوبة للتفهم السليم للمراهقين

أثر التفهم في تعزيز الصحة النفسية للمراهق

يؤدي التفهم إلى دعم الصحة النفسية للمراهق على عدة مستويات. فالشعور بالقبول والدعم يقلل من معدلات القلق والاكتئاب ويعزز من الاستقرار العاطفي. كذلك، يساعد على تعزيز المهارات الاجتماعية والتكيف مع الضغوط اليومية، ويمنحه قدرة أكبر على بناء علاقات صحية ومتزنة في المستقبل.

عندما يحاط المراهق ببيئة متفهمة، يصبح أكثر قدرة على حل النزاعات بطرق سلمية، وأكثر ميلًا لتحمّل المسؤولية. ويظهر ذلك في أدائه الأكاديمي، وعلاقاته الاجتماعية، وتعامله مع التحديات.

دور المدرسة في تفهم المراهق

لا يمكن الحديث عن التفهم دون التطرق إلى دور المؤسسة التعليمية، كونها تحتضن المراهقين في فترات طويلة من يومهم. تحتاج المدرسة إلى تطوير سياسات تربوية تدعم التفهم وتقلل من العقاب، وتعزز من التربية النفسية والاجتماعية.

المعلمون هم في الواجهة، ويتحتم عليهم فهم خصائص المراهقة وتفادي أساليب التعليم التقليدية التي تقوم على التلقين والضغط. الأسلوب الإنساني في التعامل، الذي يراعي الفروق الفردية ويمنح الطالب الشعور بالقيمة، له دور بالغ في تشكيل شخصية المراهق.

دور المجتمع في دعم المراهقين

يجب أن يتحلى المجتمع، بمؤسساته المختلفة، بوعي جماعي حول حساسية مرحلة المراهقة. منظمات المجتمع المدني، وسائل الإعلام، والبرامج الشبابية، كلها مسؤولة عن تقديم محتوى يعزز من وعي المراهقين ويدعم تطورهم السليم. على المجتمعات أن تفتح مساحات آمنة يُسمع فيها صوت المراهق، ويُعترف بها بوجوده وحقه في التعبير.

تأثير التفهم على بناء هوية المراهق

الهوية ليست صفة يولد بها الإنسان، بل عملية مستمرة من الاستكشاف والتجريب. في ظل التفهم، يشعر المراهق بحرية استكشاف ذاته وهويته الثقافية والدينية والجنسية دون خوف من الرفض. هذا لا يعني تشجيعه على التمرد على الأعراف، بل منحه مساحة آمنة للتفكير والاختيار.

المراهق الذي يُمنح تفهمًا في هذه المرحلة يكون أكثر اتزانًا في توجهاته الفكرية، وأقدر على بناء رؤية واضحة للحياة، وأكثر وعيًا بذاته وبالآخرين، ما ينعكس في مستقبله العملي والعاطفي والاجتماعي.

الختام

إن المراهقة ليست مرحلة “يجب تجاوزها بسرعة”، بل هي مساحة خصبة لبناء الإنسان. التفهم ليس خيارًا، بل ضرورة تربوية وأخلاقية لا غنى عنها لضمان نمو سليم ومتوازن للمراهقين. إن إشاعة ثقافة التفهم في الأسرة، المدرسة، والمجتمع هو السبيل نحو جيل واعٍ، متصالح مع ذاته، ومنفتح على العالم دون أن يفقد جذوره.

المراجع:

1. Erikson, E.H. (1968). Identity: Youth and Crisis. New York: W. W. Norton & Company.

2. Steinberg, L. (2016). Adolescence. McGraw-Hill Education.