ضوابط المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية

تُعدّ المصلحة والمفسدة من المفاهيم الجوهرية التي تستند إليها الشريعة الإسلامية في تحقيق مقاصدها وغاياتها السامية، حيث تسعى إلى تحقيق الخير والرفاهية للمجتمع والفرد، ودرء الضرر والمفسدة عنهما. وقد كرّس الإسلام هذا المبدأ من خلال التشريعات والقواعد الفقهية التي تهدف إلى إقامة العدل، وتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية، وضمان سلامة الأفراد والأمم. وفي هذا المقال، سيتم تناول ضوابط المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية بشكل موسع ومفصل، مع تحليل منهجي دقيق يبرز عمق هذا المفهوم وأهميته، ومدى ارتباطه بالمقاصد الشرعية.

مفهوم المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية

المصلحة لغةً تعني المنفعة أو الخير، وهي ضد المفسدة التي تعني الضرر أو الشر. أما اصطلاحًا في الشريعة الإسلامية، فالمصلحة هي ما يهدف الشرع إلى تحقيقه لفائدة الإنسان في دنياه وآخرته، والمفسدة هي ما يهدف الشرع إلى درئه وصدّه لحصول الضرر أو الأذى على الفرد أو المجتمع. والمصلحة والمفسدة تشمل الجوانب الدينية والدنيوية، وتشكل أساساً في التشريع الإسلامي لضمان تحقيق مقاصد الشريعة.

أهمية المصلحة والمفسدة في التشريع الإسلامي

تكمن أهمية المصلحة والمفسدة في كونهما من القواعد الكبرى التي تهدف إلى تحقيق مقاصد الشريعة، والتي يمكن إجمالها في حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، والمال. فالشريعة لا تشدد على التشريعات التي قد تُحدث ضرراً بليغاً، ولا تسمح بترك المصلحة وتحقيقها بأي وسيلة كانت إلا إذا كانت متوافقة مع النصوص الشرعية.

ضوابط المصلحة والمفسدة

1. المصلحة لا تخالف نصًا قطعيًا

أول ضابط أساسي في قبول المصلحة هو أن لا تتعارض مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة التي جاءت قطعية الدلالة. فكل مصلحة أو فعل شرعي يجب أن يكون موافقًا للنصوص الشرعية أو على الأقل لا يخالفها. فالمصلحة لا تعني تجاوز حدود الشريعة أو مخالفتها، بل هي في إطارها.

2. المصلحة محققة لمنفعة عامة وليست خاصة

المصلحة التي تؤخذ بها الشريعة يجب أن تكون مصلحة عامة تعود بالنفع على المجتمع أو الأمة ككل، وليس مجرد مصلحة فردية ضيقة. فلا يجوز شرعًا اعتماد مصلحة شخصية لا تفيد إلا فردًا واحدًا إذا كانت تسبب ضررًا للأمة أو المجتمع.

3. المصلحة ذات علاقة بمقاصد الشريعة

يجب أن تكون المصلحة التي يُراد تحقيقها مرتبطة بإحدى مقاصد الشريعة الخمسة، وهي: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، وحفظ المال. فلو لم تكن المصلحة ذات صلة بأحد هذه المقاصد، فلا تعترف بها الشريعة.

4. المصلحة معتبرة إذا تعذرت الوسائل الشرعية المعلومة

في حالة عدم وجود نص شرعي صريح في مسألة معينة، يمكن الأخذ بالمصلحة التي تحقق الخير أو تدفع الضرر، ولكن مع مراعاة عدم تعارضها مع المبادئ العامة للشريعة. وهذا الضابط يُعرف بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات في حدودها.

5. جلب المصلحة لا يكون إلا بما لا يؤدي إلى مفسدة أشد

ينبغي عند الأخذ بالمصلحة أن لا تسبب مفسدة أعظم منها، فالشريعة لا تقبل مبدأ جلب مصلحة صغيرة على حساب وقوع مفسدة كبيرة. هذا ضابط أساسي في وزن الأمور وترجيح أحدها على الآخر.

6. المصلحة معقولة ومتوقعة الحدوث

يجب أن تكون المصلحة التي تعتمدها الشريعة أمرًا معقولًا وواقعيًا، لا أمرًا وهميًا أو غير محتمل الحدوث. فلا تقبل مصالح وهمية أو خيالية لا يُتوقع تحققها.

7. المصلحة متصلة بالمصلحة الشرعية ومرتبطة بمنافع دنيوية أو أخروية

تنقسم المصلحة في الشريعة إلى مصالح دنيوية وأخروية، ويجب مراعاة كلا الجانبين عند التشريع؛ فالشرع يسعى لتحقيق مصالح الإنسان في دنياه وآخرته، فلا يُغفل أحدهما.

أمثلة على تطبيق ضوابط المصلحة والمفسدة

إزالة المفسدة مقدم على جلب المصلحة

في الكثير من المسائل الفقهية، يُرجح دفع المفسدة الكبرى على جلب المصلحة الصغرى، مثال ذلك:

• حرمة شرب الخمر مبنية على دفع مفسدة كبيرة تصيب العقل والنفس والمجتمع، رغم أن بعض الأفراد قد يرون فيها متعة مؤقتة ومصلحة شخصية.

• منع الربا على الرغم من تحقيق مصلحة مالية لمن يربح من الفوائد، لأن الربا يسبب مفسدة اجتماعية واقتصادية ضخمة.

تحكيم المصلحة في قضايا العاجلة

مثال آخر هو جواز استعمال الأدوية أو التداوي في حالة الضرورة، حيث تحكم المصلحة في حفظ النفس، فتُباح أشياء محرمة شرعًا كالخمر في الطب مثلاً إذا لم يكن هناك بديل، حفاظًا على حياة الإنسان.

إقرار بعض الأعراف والعادات المباحة

في المسائل التي لا نص فيها صريح، تُراعى المصلحة في قبول بعض العادات والتقاليد التي لا تخالف الشريعة، مثل التيسير في بعض المعاملات المالية التي تخدم المصلحة الاقتصادية للمجتمع.

الجدول التالي يوضح علاقة المصلحة بحفظ مقاصد الشريعة

مصادر الشريعة والمرجعية في تحديد المصلحة والمفسدة

تعتمد الشريعة الإسلامية في تحديد المصلحة والمفسدة على مصادرها الأساسية: القرآن الكريم، السنة النبوية، إجماع العلماء، والاجتهادات الفقهية المبنية على قواعد المصلحة. ولعلماء الأصول دور كبير في وضع قواعد وأصول الاجتهاد التي تحكم النظر في المصلحة والمفسدة، خاصة في المسائل الجديدة التي لم يرد فيها نص صريح.

من أبرز علماء الأصول الذين تناولوا المصلحة بقوة: الإمام الشاطبي، الذي أرسى فكرة المقاصد الشرعية والاعتماد على المصلحة في التشريع، وأوضح أن المصلحة الأصلية هي مقصود الشارع، كما أن ابن قدامة المقدسي وفقيهو المدرسة الحنبلية تناولوا المصلحة ضمن قواعدهم الفقهية.

خلاصة دور ضوابط المصلحة والمفسدة في استنباط الأحكام

تكمن أهمية ضوابط المصلحة والمفسدة في كونها تضمن استمرارية التشريع الإسلامي ومرونته، وقدرته على التعامل مع مستجدات الحياة، مع ثبات القيم والأصول التي تحكم المجتمع الإسلامي. إذ تتيح هذه الضوابط اجتهاد الفقهاء في تفسير النصوص بما يخدم الصالح العام، ويحفظ توازنًا بين الثابت والمتغير في المجتمع.

تلك الضوابط تمثل ضمانة حقيقية تحمي الشريعة من التعسف أو التحايل، وتؤكد أن التشريع الإسلامي هو تشريع رحمة، يوازن بين مصالح الدنيا والآخرة، ويرعى مصالح الفرد والجماعة في إطار من العدالة والإنصاف.

المصادر والمراجع

• الشاطبي، الإمام أبو إسحاق: “الموافقات في أصول الشريعة”، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأخيرة.

• ابن قدامة، المقدسي: “المغني في الفقه الحنبلي”، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار المعرفة، القاهرة.

هذا المقال يقدم رؤية شاملة ومفصلة عن ضوابط المصلحة والمفسدة في الشريعة الإسلامية، ويبرز كيفية تطبيقها في التشريع والواقع، مع التركيز على قواعدها التي تحكم قبول المصلحة ودرء المفسدة لتحقيق مقاصد الدين والدنيا.