ضعف الصناعة العربية: الأسباب، التحديات، وسبل النهوض

تُعد الصناعة من أهم دعائم الاقتصاد في أي دولة، إذ تسهم بشكل مباشر في خلق فرص العمل، تنمية الصادرات، تقليص الاعتماد على الاستيراد، وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. غير أن الواقع الصناعي في الدول العربية لا يعكس الإمكانات البشرية والطبيعية المتوفرة لديها. فمع وفرة المواد الخام، والطاقات البشرية الشابة، والموقع الجغرافي الإستراتيجي، إلا أن الصناعة العربية ما تزال ضعيفة ومتأخرة مقارنة ببقية دول العالم، بما في ذلك بعض الدول النامية. هذا الضعف يطرح إشكالات متعددة تستحق الدراسة والتحليل لتشخيص الأسباب ووضع رؤية شاملة للإصلاح والنهوض.

أولاً: واقع الصناعة في الوطن العربي

الصناعة في الوطن العربي تمثل نسبة متواضعة من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم الدول. فباستثناء بعض الدول مثل الإمارات والمغرب ومصر وتونس التي شهدت تطوراً نسبياً في قطاعات صناعية محددة كالصناعات التحويلية والغذائية، فإن الطابع العام يظل تقليدياً وغير تنافسي. العديد من الصناعات تظل محصورة في النشاطات الاستخراجية (كالبترول والغاز) ولا تنتقل إلى مراحل أكثر تعقيداً في سلاسل القيمة، مثل التصنيع المتقدم أو التكنولوجيا الدقيقة.

الصناعات الثقيلة والمتوسطة ما تزال محدودة في عدد من الدول، بينما تعتمد دول أخرى بشكل شبه كامل على استيراد المنتجات الصناعية الجاهزة، مما يضعها في وضع اقتصادي هش ومعتمد على الخارج. كما أن مشاركة القطاع الصناعي في الناتج المحلي لبعض الدول لا يتعدى 10%، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالمعدلات العالمية التي تصل في بعض الدول الصناعية إلى 25% وأكثر.

ثانياً: أسباب ضعف الصناعة العربية

1. غياب التخطيط الصناعي الشامل

افتقار معظم الدول العربية إلى خطط صناعية طويلة الأمد ومتكاملة يمثل إحدى أبرز المشكلات. غالباً ما تكون السياسات الصناعية غير متناسقة، وتعاني من تقلبات تبعاً لتغير الحكومات أو الأزمات السياسية. كما أن غياب التنسيق الإقليمي العربي يفاقم من التجزئة ويحول دون قيام تكتل صناعي عربي موحد.

2. الاعتماد المفرط على الاقتصاد الريعي

تعتمد العديد من الدول العربية على الموارد الطبيعية، خصوصاً النفط والغاز، كمصدر رئيسي للدخل القومي. هذا الاعتماد الريعي يقلل من الحوافز للاستثمار في الصناعة، ويدفع الحكومات إلى إهمال تطوير البنية الصناعية، نظراً لأن العوائد النفطية تضمن استقراراً مؤقتاً دون الحاجة إلى تنمية اقتصادية حقيقية قائمة على الإنتاج.

3. ضعف البحث العلمي والتطوير التكنولوجي

الصناعة الحديثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبحث العلمي والابتكار التكنولوجي. الدول العربية تنفق نسباً ضئيلة جداً من ناتجها المحلي على البحث العلمي (أقل من 1% في معظم الحالات)، ما يجعلها متأخرة كثيراً في مجال الابتكار الصناعي والتقني. كما أن العلاقة بين الجامعات والمؤسسات الصناعية ضعيفة أو شبه منعدمة.

4. ندرة الكفاءات الفنية المتخصصة

تعاني معظم الصناعات العربية من نقص في العمالة الفنية المدربة، سواء في مجالات التشغيل أو الهندسة الصناعية أو الإدارة. النظام التعليمي لا يولّد كفاءات مناسبة لسوق العمل الصناعي، كما أن الهجرة المستمرة للعقول والكفاءات إلى الخارج تفاقم من المشكلة.

5. ضعف البنية التحتية الصناعية

العديد من المناطق الصناعية في الدول العربية تعاني من ضعف الخدمات الأساسية، كالكهرباء والمياه والطرق وشبكات النقل والموانئ، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الطاقة في بعض البلدان غير النفطية. غياب المدن الصناعية المتكاملة يؤدي إلى تشتيت الجهود وعدم استقرار الإنتاج.

6. قيود تمويلية

القطاع الصناعي يحتاج إلى رؤوس أموال ضخمة لتمويل شراء المعدات وبناء المصانع وتطوير الإنتاج. غير أن الأنظمة المصرفية العربية لا توفّر تسهيلات كافية للصناعيين، وتفرض شروطاً تمويلية قاسية، إلى جانب غياب صناديق تمويل خاصة بالمشاريع الصناعية الناشئة والمتوسطة.

7. المنافسة الأجنبية غير المتكافئة

الأسواق العربية مفتوحة على مصراعيها أمام السلع الأجنبية، وغالباً ما تكون هذه المنتجات أرخص وأعلى جودة من نظيرتها المحلية، ما يؤدي إلى تراجع الإنتاج المحلي. ضعف حماية الصناعات الوطنية يجعلها عاجزة عن منافسة المستوردات، لا سيما من الصين والهند وتركيا.

8. الفساد والبيروقراطية

تعقيد الإجراءات الإدارية، والفساد في منح التراخيص والتسهيلات، يعيق توسع الصناعة ويزيد من كلفة الإنتاج. المستثمرون الصناعيون يواجهون صعوبات جمة في تأسيس مشاريعهم، مما يدفعهم إلى البحث عن فرص استثمارية في الخارج.

ثالثاً: التحديات الراهنة التي تواجه الصناعة العربية

• التحولات الجيوسياسية والصراعات في عدد من الدول العربية (مثل سوريا، العراق، ليبيا، اليمن)، أدت إلى تدمير البنية الصناعية أو تعطيلها بشكل كلي.

• العولمة الاقتصادية فرضت نمطاً من التنافس القاسي لم تكن الصناعات العربية مستعدة له، خاصة في غياب الحماية الجمركية الكافية.

• التغير المناخي ومتطلبات التنمية المستدامة تضيف عبئاً جديداً على الصناعات الملوثة للبيئة، ما يتطلب تقنيات حديثة واستثمارات ضخمة لتوفيق الأوضاع البيئية.

• الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة (كالذكاء الاصطناعي والروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد) تعيد تشكيل الخارطة الصناعية العالمية، ما يستوجب إعادة هيكلة الصناعة العربية لتواكب هذه التطورات.

رابعاً: مجالات يمكن أن تمثل فرصاً للصناعة العربية

رغم التحديات الكبرى، فإن هناك مجالات واعدة يمكن أن تكون منطلقاً لتطوير الصناعة في العالم العربي، أبرزها:

• الصناعات الغذائية: بفضل وفرة المنتجات الزراعية، يمكن بناء سلاسل تحويلية قوية للصناعات الغذائية ذات الجودة العالية.

• الصناعات الدوائية: مع وجود كفاءات طبية وعلمية، واستيراد كبير للأدوية، يمكن تقوية الصناعة الدوائية عربياً.

• الصناعات البتروكيماوية: امتلاك ثروات نفطية وغازية هائلة يتيح إمكانيات لإنشاء صناعات تحويلية معقدة وذات قيمة مضافة عالية.

• الصناعات البيئية والطاقة المتجددة: الموقع الجغرافي والمناخي للدول العربية يتيح لها الريادة في مجالات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

• الصناعات الدفاعية والأمنية: مع تزايد الاحتياجات الأمنية، يمكن أن تكون الصناعة الدفاعية أحد مسارات النمو الصناعي، خاصة في الدول ذات الموارد والقدرات.

خامساً: سبل النهوض بالصناعة العربية

1. وضع إستراتيجية صناعية عربية موحدة

ينبغي على الدول العربية، من خلال جامعة الدول العربية أو مؤسسات إقليمية مثل “الإسكوا”، وضع خطة صناعية تكاملية، تحدد الأولويات وتوزع الأدوار بحسب المزايا النسبية لكل دولة، بهدف خلق منظومة صناعية عربية موحدة ومترابطة.

2. إصلاح منظومة التعليم والتدريب

يجب إعادة هيكلة نظم التعليم لتخدم الاحتياجات الصناعية، من خلال دعم التعليم التقني والمهني، وتطوير الشراكات بين المؤسسات الصناعية والجامعات والمعاهد.

3. تحفيز البحث العلمي التطبيقي

تمويل الأبحاث التطبيقية، وإنشاء مراكز بحوث صناعية، وربط نتائج البحوث بالقطاعات الإنتاجية، يمثل خطوة حاسمة نحو تصنيع عربي منافس يعتمد على الابتكار.

4. تحسين مناخ الأعمال

توفير بيئة استثمارية جاذبة من خلال محاربة الفساد، تبسيط الإجراءات الإدارية، وتقديم حوافز للصناعيين، خاصة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

5. بناء المدن الصناعية المتكاملة

إنشاء مناطق صناعية متطورة تحتوي على بنية تحتية متكاملة، وخدمات لوجستية، وتسهيلات تمويلية، سيُسهم في جذب الاستثمارات الصناعية المحلية والأجنبية.

6. تعزيز التكامل العربي الصناعي

الانتقال من النمط الحالي القائم على المنافسة إلى نمط تكاملي، بحيث تتخصص كل دولة في صناعات معينة ضمن شبكة إنتاج عربية متكاملة، سيزيد من فعالية الكتلة الصناعية الإقليمية.

7. دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة

تشكل هذه الصناعات العمود الفقري لأي نهضة صناعية. توفير التمويل والتدريب والدعم التسويقي والإداري لها سيساعد على تعزيز الإنتاجية وتقليل البطالة.

8. الاستفادة من الاتفاقيات التجارية

استخدام الاتفاقيات التجارية العربية والدولية كأدوات لفتح أسواق جديدة، ورفع تنافسية المنتج العربي عالمياً.

سادساً: جدول مقارنة بين واقع الصناعة العربية والدول الناجحة صناعياً

سابعاً: خاتمة تحليلية

ضعف الصناعة في العالم العربي لا يُعد نتيجة حتمية للظروف الجغرافية أو نقص الموارد، بل هو حصيلة تراكمية لخيارات اقتصادية وسياسية غير فعالة، وغياب الرؤية بعيدة المدى، وتفكك الجهود بين الدول. النهوض بالصناعة يتطلب تحوّلاً جذرياً في السياسات التنموية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتحفيز القطاع الخاص، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الإنتاجية الفعلية. الصناعة ليست فقط مسألة إنتاج، بل قضية استقلال اقتصادي وركيزة من ركائز السيادة الوطنية.

المصادر:

1. التقرير الاقتصادي العربي الموحد – صندوق النقد العربي، 2023.

2. “Industrial Development Report” – UNIDO, 2023.