صلاح الدين الأيوبي: سيرة بطلٍ صنع المجد ووحّد الأمة

المقدمة

صلاح الدين الأيوبي، هو الاسم الذي يجلجل في صفحات التاريخ الإسلامي، وتتردد أصداؤه عبر العصور رمزاً للبطولة والفروسية والقيادة الحكيمة. هو القائد الذي غيّر موازين القوى في الشرق الأوسط خلال الحروب الصليبية، واستعاد القدس بعد عقودٍ من الاحتلال الصليبي، فأحيا في النفوس روح العزة والكرامة. صلاح الدين لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان رجل دولة، ومصلحاً، ومتديناً تقياً، جمع بين البصيرة السياسية والعدل والشجاعة، فاستحق أن يكون من أبرز شخصيات التاريخ الإسلامي والعالمي.

النشأة والبدايات

ولد يوسف بن أيوب بن شاذي، الملقب بـ”صلاح الدين الأيوبي”، في عام 1137 أو 1138م بمدينة تكريت في العراق، في ليلةٍ اضطر فيها والده أيوب للفرار من المدينة بسبب خلاف مع واليها. وقد نشأ صلاح الدين في بيئةٍ عسكرية ضمن أسرة كردية عرفت بولائها للدولة الزنكية، التي كانت تحكم مناطق من بلاد الشام والعراق بقيادة عماد الدين زنكي ومن بعده ابنه نور الدين محمود. انتقلت العائلة إلى الموصل ثم إلى بعلبك، حيث تولّى والده مناصب مهمة، ثم استقروا في دمشق التي أصبحت مركز نشاطهم السياسي والعسكري.

تلقى صلاح الدين تعليماً دينياً وعسكرياً، وتأثر كثيراً بشخصية نور الدين محمود، الذي زرع في قلبه حب الجهاد والتوحيد ووحدة الصف الإسلامي. لم يظهر في بدايته كمحارب بارز، بل كان يميل إلى التحصيل العلمي والديني، ولكن الظروف السياسية والدينية المتأزمة آنذاك دفعته تدريجياً إلى ميادين الحرب والإدارة.

بزوغ النجم في مصر

في عام 1164م، أرسل نور الدين جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين، إلى مصر للتصدي للنفوذ الصليبي المتزايد هناك. اصطحب شيركوه ابن أخيه صلاح الدين في حملاته، وشارك في ثلاث حملات متتالية انتهت بالسيطرة على مصر عام 1169م، بعد وفاة شيركوه، ليتولى صلاح الدين الوزارة في الدولة الفاطمية التي كانت تمر بمرحلة احتضار سياسي وديني. وقد عمل على ترسيخ نفوذ الدولة الزنكية في مصر وإلغاء الخلافة الفاطمية الشيعية، وإعادة مصر إلى كنف الخلافة العباسية السنية.

كان هذا التحول لحظةً محورية في تاريخ المنطقة، فقد أنهى صلاح الدين قرنين من الحكم الفاطمي، ووحد الجبهة الداخلية بين مصر والشام تحت راية الإسلام السني، مما شكّل قاعدة استراتيجية قوية لمواجهة الحملة الصليبية التي احتلت القدس منذ عام 1099م.

بناء الدولة الأيوبية

بعد وفاة نور الدين محمود عام 1174م، شرع صلاح الدين في توسيع نفوذه تدريجياً، فدخل دمشق بترحيب شعبي، ثم تابع إلى حلب والموصل، حيث واجه مقاومة شديدة لكنه استطاع توحيد أغلب بلاد الشام ومصر والحجاز واليمن تحت سلطته، مؤسساً بذلك الدولة الأيوبية.

تميزت سياسة صلاح الدين بالحكمة والمرونة، إذ كان يتحالف أحياناً مع أمراء محليين أو يتفاوض معهم لتحقيق الوحدة دون اللجوء إلى القتال، إلا عند الضرورة. وكان همه الأكبر تحقيق الجهاد ضد الصليبيين، ولكنه أدرك أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بتوحيد المسلمين أولاً، وهو ما تحقق له تدريجياً على مدى أكثر من عقد.

اعتمد في إدارته على الكفاءات، وألغى كثيراً من مظاهر الترف والمحاباة التي كانت سائدة في بعض الإدارات السابقة، كما اهتم ببناء المؤسسات الدينية والعلمية، فازدهرت الحياة العلمية والثقافية في عهده.

معركة حطين: نقطة التحول

تُعد معركة حطين التي وقعت في 4 يوليو 1187م إحدى أعظم معارك المسلمين في العصور الوسطى. فقد استطاع صلاح الدين بخطته المحكمة أن يحاصر قوات الصليبيين بقيادة ملك القدس غي دي لوزينيان، ويستدرجهم إلى سهل حطين قرب بحيرة طبرية، حيث قطع عنهم الماء، وهاجمهم في ظروف قاسية من العطش والتعب.

أسفرت المعركة عن نصر ساحق للمسلمين، وتم أسر عدد كبير من القادة الصليبيين من بينهم ملك القدس نفسه وريجنالد دي شاتيون الذي كان يشتهر بفظاعته ضد المسلمين، وقد أعدمه صلاح الدين بيده انتقاماً لجرائمه. فتحت معركة حطين الطريق لتحرير معظم المدن الفلسطينية والساحلية من الصليبيين، وعلى رأسها القدس.

استعادة القدس

في 2 أكتوبر 1187م، دخل صلاح الدين القدس بعد حصار قصير دام عدة أيام. وقد تجلّت في تلك اللحظة أسمى القيم الأخلاقية الإسلامية، إذ عامل سكان المدينة من المسيحيين واليهود معاملة حسنة، على عكس ما فعله الصليبيون عندما دخلوها عام 1099م، حيث ذبحوا عشرات الآلاف من المسلمين واليهود.

أعطى صلاح الدين الأمان للسكان، وسمح لهم بالخروج مقابل فدية رمزية، وأعفى الفقراء من الدفع. كما أمر بتنظيف المسجد الأقصى وقبة الصخرة من آثار الاحتلال، وأعاد تعمير المدينة وإحياء شعائر الإسلام فيها.

الحملة الصليبية الثالثة ومواجهة ريتشارد قلب الأسد

أثار سقوط القدس موجة غضب في أوروبا، مما أدى إلى إطلاق الحملة الصليبية الثالثة بقيادة عدد من ملوك أوروبا، أبرزهم ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا. جرت معارك عديدة بين الطرفين، أبرزها معركة أرسوف، ولم يتمكن الصليبيون من استعادة القدس رغم تفوقهم العددي والتقني.

شهدت هذه الحملة نوعاً من الاحترام المتبادل بين صلاح الدين وريتشارد، حيث تبادلا الرسائل والهدايا، وبرزت أخلاقيات الحرب النبيلة. وانتهت الحملة بمعاهدة الرملة عام 1192م، التي نصّت على بقاء القدس تحت حكم المسلمين مع السماح للحجاج المسيحيين بزيارتها.

شخصيته وأخلاقه

عرف صلاح الدين بتواضعه وورعه، وكان يكره المظاهر والتبذير، ويعيش عيشة بسيطة رغم سلطانه الواسع. تميز بعدله بين الناس، واحترامه للعلماء، وتشجيعه على نشر العلم والمعرفة، كما كان رؤوفاً بالأسرى ويحرص على إطلاق سراحهم متى أمكن.

كان محباً للجهاد، ويمضي لياليه في التهجد والدعاء، ولم يكن يستأثر بثروات الدولة لنفسه، حتى إنه عند وفاته لم يترك سوى بضعة دنانير لم تكفِ لشراء كفنه، وقد دُفن في دمشق بجوار الجامع الأموي، ولا يزال قبره مزاراً حتى اليوم.

الوفاة والإرث

توفي صلاح الدين الأيوبي في 4 مارس 1193م عن عمرٍ ناهز 56 عاماً، بعد حياة حافلة بالجهاد والبناء والوحدة. كانت وفاته خسارة كبيرة للأمة الإسلامية، لكنها تركت أثراً لا يُمحى، فقد رسم طريق النهوض من جديد، وأعاد إلى المسلمين الثقة بأن النصر ممكن متى ما توحدت صفوفهم.

أسس صلاح الدين الدولة الأيوبية التي استمرت بعده، وتوسعت لتشمل أجزاء كبيرة من المشرق العربي. وخلّد اسمه في سجلات التاريخ الإسلامي والغربي كرمز للفرسان الشرفاء والقادة العظماء.

التراث والذكرى

ظل اسم صلاح الدين حياً في وجدان الأمة الإسلامية، وظهرت في كل عصر محاولات لاستعادة تجربته في الوحدة والتحرير. نُقشت سيرته في كتب التاريخ، وتناقلها المؤرخون المسلمون مثل ابن شداد وابن الأثير، كما حظي بتقدير واسع في الأدبيات الغربية التي وصفته بالنبل والشهامة.

لا تزال المدارس والشوارع والساحات تُسمى باسمه في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كما تُقام التماثيل والنُصُب التذكارية له في مدن عديدة، ويُدرس تاريخه كجزء من المناهج الدراسية، ويُستشهد به عند الحديث عن القيادة الرشيدة والفروسية النبيلة.

جدول يلخص أبرز محطات حياة صلاح الدين الأيوبي

المراجع

1. ابن شداد، “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية”

2. ابن الأثير، “الكامل في التاريخ”