صفات المنافقين في سورة البقرة

صفات المنافقين في سورة البقرة

تُعدُّ سورة البقرة من أطول سور القرآن الكريم وأكثرها تناولًا لقضايا العقيدة والتشريع والهداية، وقد تميزت بعرضها التفصيلي لأصناف الناس تجاه دعوة الحق، حيث قسّمتهم إلى ثلاثة أصناف رئيسة: المؤمنين، الكافرين، والمنافقين. وقد جاء الحديث عن المنافقين في هذه السورة بأسلوب بليغ ومفصل، يستعرض صفاتهم النفسية والسلوكية، ويكشف عن خفايا نياتهم، مما يعكس خطورتهم على المجتمع الإسلامي الناشئ، ويُبرز دورهم في زعزعة استقرار الأمة من الداخل.

لقد خُصصت الآيات من (8) إلى (20) في مطلع سورة البقرة للحديث عن المنافقين، بعد ذكر صفات المؤمنين في أربع آيات، والكافرين في آيتين، مما يعكس خطورة النفاق مقارنة بالكفر الظاهر، حيث يمثل النفاق تهديدًا داخليًا خفيًا، يصعب كشفه، ويتسلل إلى كيان المجتمع المسلم تحت ستار الإيمان.

فيما يلي تحليل دقيق وموسع للصفات التي وردت في السورة عن المنافقين، مدعومًا بالسياق اللغوي والبلاغي والتأويلي، لتكوين صورة شاملة عن طبيعة النفاق وسماته كما عرضها القرآن الكريم في هذه السورة المحورية.

أولًا: التعريف بالمنافقين في سورة البقرة

المنافقون هم قوم يُظهرون الإسلام ويُبطنون الكفر، ويتظاهرون بالإيمان وهم في حقيقة أمرهم غير مؤمنين. وهم في غاية الخطورة لأنهم يعيشون في المجتمع المسلم، ويتعاملون مع الناس كأنهم منهم، بينما يحملون في قلوبهم العداء، ويعملون على تقويض الأسس من الداخل.

قال الله تعالى:

“وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ” [البقرة: 8]

في هذه الآية الافتتاحية حول المنافقين، يتم التصريح بأنهم يقولون “آمنا”، أي يظهرون الإيمان بلسانهم، ولكن الواقع أن إيمانهم مزيف. فهم ليسوا مؤمنين، بل يظهرون ما لا يبطنون.

ثانيًا: الصفات النفسية والسلوكية للمنافقين في سورة البقرة

1. الازدواجية في الظاهر والباطن

من أبرز الصفات التي يتسم بها المنافقون، التناقض بين الظاهر والباطن. يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر:

“وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ”

هذه الازدواجية تجعلهم غير موثوقين، فهم يخادعون الناس بظاهرهم، لكنهم في الحقيقة كاذبون.

2. الخداع لله وللمؤمنين

قال تعالى:

“يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ” [البقرة: 9]

الخداع صفة مركزية في شخصية المنافق. وهم يعتقدون أنهم قادرون على خداع الله، وهو وهم وجهل، لأن الله يعلم السر وأخفى. وكذلك يسعون لخداع المؤمنين، ولكن النتيجة أن خداعهم يرتد عليهم في النهاية.

3. المرض القلبي

قال الله:

“فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا” [البقرة: 10]

المرض هنا ليس جسديًا، بل هو مرض الشك، والحقد، والنفاق، وسوء النية. وهذا المرض ليس جامدًا بل متفاقم، إذ يزيدهم الله مرضًا نتيجة تعنتهم وفساد قلوبهم، حتى يصلوا إلى درجات أشد من الضلال.

4. الكذب الدائم

“وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ”

الكذب ملازم للمنافق، لأنه يُجمل باطله بالقول الكاذب، ويخفي الحقيقة دومًا. لذلك فإن الكذب عقوبته العذاب الأليم، لأنه يؤسس للخداع والغدر.

5. الإفساد في الأرض باسم الإصلاح

قال تعالى:

“وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ”

“أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ” [البقرة: 11-12]

هذه الآية تكشف عن خداع آخر: الإفساد تحت مظلة الإصلاح. فهم يلبّسون الباطل لباس الحق. يخربون القيم ويثيرون الفتن، ويدّعون أنهم يسعون للإصلاح، في حين أن حقيقتهم مفسدة واضحة.

6. السخرية من المؤمنين

قال الله:

“وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا ۖ وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ” [البقرة: 14]

هنا يظهر النفاق الاجتماعي، فهم يتظاهرون بالإيمان عند المؤمنين، وعند الانفراد بأهل الكفر يعترفون بحقيقتهم، بل ويستهزئون بالمؤمنين، مما يدل على احتقارهم للحق وأهله.

7. التذبذب والتقلب

قال الله:

“مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ” [النساء: 143] (ذكر مكمل من سورة النساء)

وإن لم تكن هذه الآية من سورة البقرة، لكنها تكمل المعنى في القرآن عمومًا. فالمنافق متقلب لا يستقر على موقف. تراه في صف المسلمين حينًا، وفي صف أعدائهم حينًا آخر.

8. قلوبهم خالية من نور الإيمان

خُتم وصف المنافقين في سورة البقرة بآيتين بليغتين في التصوير:

“مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا…” إلى قوله: “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ” [البقرة: 17-20]

في هذه الآيات تشبيه بليغ لحال المنافقين: كأنهم في ظلمة، رأوا نورًا آنيًا فظنوا أنه الهداية، ولكن سرعان ما اختفى النور وبقوا في ظلمات لا يبصرون. وقد شبههم الله بمن فقد الحواس الروحية – البصر والسمع – فهم لا يهتدون رغم توفر كل سبل الهداية حولهم.

ثالثًا: النفاق كظاهرة خطيرة في المجتمع الإسلامي

النفاق لا يهدد فقط الإيمان الفردي، بل يُعد معول هدم للمجتمع كله، لأنه يبث الشك، ويضعف الثقة، ويُفسد التماسك. ولهذا جاء القرآن الكريم شديدًا في التحذير من المنافقين، وفضحهم في أكثر من سورة، مثل التوبة والنساء والمنافقون، ولكن سورة البقرة كانت السباقة في وضع الإطار التعريفي لهذا الخطر الداهم.

رابعًا: مقارنة بين صفات المؤمنين والمنافقين في مطلع السورة

في الجدول التالي توضيح مقارن بين الصفات التي وردت عن المؤمنين والمنافقين في مطلع السورة:

خامسًا: البلاغة القرآنية في تصوير حال المنافقين

القرآن استخدم في وصف المنافقين أرقى أساليب البلاغة من تشبيه، واستعارة، وتقديم وتأخير، وإيجاز، لتصوير المعنى بدقة وإثارة مشاعر القارئ. فالتشبيه بالنار التي أُوقدت ثم انطفأت، والظلمات المتعددة، والبرق الذي يخطف الأبصار، كلها صور تجعل من القارئ يرى النفاق في صورة حسية ملموسة، ويشعر بخطره.

سادسًا: أثر هذه الآيات في التأسيس للفهم الإسلامي للنفاق

آيات سورة البقرة وضعت الأساس النظري والروحي لفهم طبيعة المنافقين، وأسهمت في توعية المسلمين بخطر هذا التيار، ليس فقط في المدينة، بل في كل مجتمع مسلم لاحق. وهي دعوة دائمة للتفكر في حقيقة الإيمان، وإخلاص النية، ورفض التلون الديني والازدواجية في السلوك.

سابعًا: أهمية الحذر من النفاق في الحياة العملية

المسلم الواعي ينبغي له أن يراقب نفسه ويحصّن قلبه من صفات النفاق، لا سيما:

• الكذب في الحديث

• الخيانة في الأمانة

• إخلاف الوعد

• إظهار غير ما يبطن

وقد ورد في الحديث النبوي:

“آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” [رواه البخاري ومسلم]

كل هذه الصفات تتلاقى مع ما ورد في سورة البقرة من صفات المنافقين، مما يدل على ترابط المصادر التشريعية في التحذير من هذا الخطر.

المصادر:

1. تفسير ابن كثير – تفسير الآيات (8-20) من سورة البقرة.

2. تفسير الطبري – جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء الأول.