شكر نعم الله وأثره

شكر نعم الله: عبادة القلب والجوارح

الإنسان في أصل خلقه ضعيف محتاج، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، وقد أسبغ الله عليه نعماً ظاهرةً وباطنة لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: “وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” [النحل: 18]. وتكمن حقيقة العبودية في أن يعترف الإنسان بفضل ربه عليه، وأن يقابله بالشكر قلباً ولساناً وعملاً. فشكر نعم الله تعالى ليس مجرد لفظ يتردد، وإنما هو منهج حياة، وسلوك دائم، وشعور متجدد في كل لحظة.

أولاً: معنى شكر النعم

الشكر في اللغة هو الاعتراف بالإحسان والثناء على المحسن، ويُقال “شكر فلانٌ لفلانٍ نعمته” أي عرفها وذكرها وأثنى عليه بها. أما في الاصطلاح الشرعي، فشكر النعم هو: “الثناء على الله تعالى بالقلب واللسان والجوارح؛ اعترافاً بنعمه واستعمالاً لها في طاعته”. فالعبد الشاكر هو من يعترف بنعمة الله، ويستعملها فيما خُلقت له، ويبتعد بها عن معصية الله.

ثانياً: أنواع النعم وأقسامها

النعمة هي كل ما يجلب للعبد خيراً أو يدفع عنه شراً. وتنقسم النعم إلى نوعين:

1. نعم ظاهرة: وتشمل الصحة، المال، الأمن، الأبناء، الطعام، الشراب، المسكن، وغيرها من النعم المحسوسة التي يدركها الناس بالحواس.

2. نعم باطنة: وتشمل الهداية للإيمان، صفاء القلب، العقل، الحياء، التوفيق للطاعات، المحبة في قلوب الناس، النقاء الداخلي، والرضا بالقضاء.

وهناك تقسيم آخر مفيد يقسم النعم إلى:

ثالثاً: كيف يكون شكر النعم؟

شكر نعم الله تعالى يكون من خلال ثلاثة جوانب رئيسية:

1. شكر القلب

وهو الاعتراف القلبي بأن كل نعمة من الله وحده، دون حول ولا قوة من العبد. وهذا النوع هو الأساس لكل أشكال الشكر الأخرى، ويُظهر الإخلاص والخضوع لله. وهو ما عبّر عنه النبي ﷺ بقوله: “أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه”.

2. شكر اللسان

ويتحقق بذكر الله تعالى والثناء عليه، وحمده في السراء والضراء. ومن أفضل ما يُقال: “الحمد لله”، فهي الكلمة التي افتتح بها الله كتابه الكريم، وتُردد في الصلوات والعبادات. وكذلك من الشكر: الدعاء، والتحدث بالنعم مع نسبة الفضل لله، لا للفعل الشخصي فقط، كما قال تعالى: “وأما بنعمة ربك فحدث” [الضحى: 11].

3. شكر الجوارح

وهو أعظم مراتب الشكر وأكملها، ويتمثل في استخدام النعمة في طاعة الله والبعد بها عن المعصية. فشكر المال يكون بالزكاة والإنفاق، وشكر الصحة بالقيام للصلاة والصيام، وشكر الوقت بالعلم والعمل الصالح. وقد قال الحسن البصري: “إن الله لم يُنعم على عبدٍ نعمةً فحمد الله عليها، إلا كان حمده أعظم من نعمته”.

رابعاً: صور من شكر الأنبياء والصالحين

الأنبياء عليهم السلام كانوا أسوة في شكر النعم. فكان نوح عليه السلام عبداً شكوراً، كما وصفه الله تعالى: “إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا” [الإسراء: 3]. وكان داود عليه السلام يشكر الله في ليله ونهاره، فقال الله له: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ” [سبأ: 13].

أما نبينا محمد ﷺ، فكان أعبد الناس، مع أنه غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وعندما سُئل عن ذلك قال: “أفلا أكون عبداً شكوراً؟”.

خامساً: ثمرات شكر النعم

شكر النعمة له آثار عظيمة في الدنيا والآخرة، منها:

1. زيادة النعم: كما وعد الله في كتابه: “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ” [إبراهيم: 7].

2. الحفاظ على النعمة: فبالشكر تدوم النعم وتثبت، وبالكفر تزول وتتبدد.

3. الرضا والطمأنينة: الشكر يولّد في النفس الرضا، ويريح القلب من التذمر والسخط.

4. النجاة من العذاب: قال الله تعالى: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً” [النساء: 147].

5. محبة الله: الشاكر محبوب عند الله، لأنه يظهر تواضعه وخضوعه لله.

6. حياة مباركة: البركة في الرزق والعمر والذرية نتيجة حتمية لشكر الله.

سادساً: مظاهر كفران النعم

ضد الشكر هو الكفران، وهو من أقبح الصفات، وقد ذمّه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه. ومن مظاهر كفران النعم:

• استعمال النعمة في معصية الله.

• نسبتها إلى النفس أو الغير دون الله.

• التذمر الدائم والشكوى.

• البخل والتقصير في الزكاة والصدقة.

• الترف الزائد المؤدي للفساد في الأرض.

سابعاً: العلاقة بين الشكر والصبر

الشكر والصبر جناحان لا بد منهما للمؤمن في سيره إلى الله، فهو بين نعمة تحتاج إلى شكر، وبلاء يحتاج إلى صبر. وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: “كنا نعدّ النعم في الصبر كما نعدّها في الشكر”. فالصبر على البلاء شكر على نعمة الثبات، وهو من تمام شكر الله.

ثامناً: وسائل تربية النفس على شكر النعم

من أجل تحقيق الشكر الحقيقي في حياة الإنسان، ينبغي تربية النفس على عدة وسائل عملية، منها:

• التأمل في النعم وتعدادها: فإن إدراك حجم النعمة مفتاح للشكر.

• قراءة قصص الشاكرين: والاقتداء بأخلاقهم.

• المداومة على الذكر: خصوصاً أذكار الصباح والمساء.

• الاعتراف بالعجز والتقصير: فهذا يولّد التواضع ويمنع الغرور.

• الاستشعار بحال من فُقدت عنده النعمة: فذلك يعمّق الإحساس بقيمتها.

تاسعاً: الشكر في القرآن الكريم والسنة النبوية

جاء ذكر الشكر ومشتقاته في القرآن أكثر من خمسين مرة، مما يدل على عظيم منزلته. ومن الآيات البارزة:

• “إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً” [الإنسان: 3].

• “واشكروا لي ولا تكفرون” [البقرة: 152].

• “وسنجزي الشاكرين” [آل عمران: 145].

وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة منها:

• “من لا يشكر الناس لا يشكر الله” [أبو داود].

• “إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها” [مسلم].

عاشراً: الشكر في حياة الأمة والمجتمع

إذا انتشر شكر النعم بين أفراد المجتمع، فإن ذلك يُحدث تحولاً في القيم والسلوك، ومن آثار ذلك:

• تقوية الروابط الاجتماعية من خلال التعاون والتكافل.

• بناء حضارة قائمة على الإنصاف والعدالة.

• تقليل نسب الفساد والجريمة، لأن الشكر يردع النفس عن الظلم.

أما المجتمعات التي تكفر النعم، فإنها تصبح عُرضة للهلاك، كما حدث مع أقوام سابقين مثل قوم عاد وثمود، الذين بطروا النعمة فاستُؤصلوا عن بكرة أبيهم.

الخاتمة

شكر نعم الله تعالى عبادة عظيمة تتغلغل في أعماق الإيمان، وهي مفتاح للخير ومصدر للبركة، ووسيلة للرضا والسعادة. وهو ليس عبادة موسمية ولا شعوراً لحظياً، بل هو سلوك دائم يجب أن يلازم حياة المؤمن في كل تفاصيلها. إن الله غني عن شكرنا، ولكن نحن الفقراء إليه، وما شكرنا إلا لصالحنا في الدنيا والآخرة، وهو الذي وعدنا فقال: “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”.

المراجع:

1. ابن القيم، مدارج السالكين، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي.

2. الإمام الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المعرفة للطباعة والنشر.