شعر محمد بن فطيس المري

شعر محمد بن فطيس: مرآة الهوية القطرية وامتداد لفروسية البادية

يُعد الشاعر القطري محمد بن فطيس المري أحد أبرز الأصوات الشعرية في الخليج العربي المعاصر، وهو صوت اتسم بخصوصية لغوية وشاعرية نادرة، جعلته يحتل مكانة متقدمة في قلوب المتذوقين للشعر النبطي. لم يكن بن فطيس مجرد شاعر ينافس على المسابقات، بل ظاهرة أدبية وشعبية اكتسحت مشهد الشعر النبطي منذ بداياته، وذلك لما يمتلكه من موهبة فطرية في نظم الشعر، وحنكة في صياغة الصورة الشعرية، وصدق في التعبير عن قضايا وهموم الإنسان العربي، خصوصًا في بيئته الخليجية القبلية.

ولد محمد بن فطيس المري في دولة قطر ونشأ في بيئة قبلية أصيلة تنتمي إلى قبيلة المري، وهي إحدى أبرز القبائل في الخليج العربي. وقد شكلت هذه البيئة منبعًا ثقافيًا غنيًا تغذى منه وجدان الشاعر منذ نعومة أظفاره، مما جعل شعره يحمل في طياته عبق البادية، ومفرداتها، وقيمها، وأخلاقها، ومظاهر حياتها اليومية. فمنذ بواكيره الشعرية، بدا واضحًا أن ابن فطيس يمتلك نَفَسًا شعريًا فريدًا، يمزج بين الأصالة والحداثة، وبين الحكمة والعاطفة، وبين الجزالة والسهولة.

ارتبط اسم محمد بن فطيس في الذاكرة الخليجية والعربية ارتباطًا وثيقًا بمسابقة “شاعر المليون” التي أقيمت في الإمارات عام 2006، والتي شكلت انطلاقة جديدة له نحو الجماهيرية، بعد أن توّج فيها بلقب “شاعر المليون” في موسمها الأول، متفوقًا على عدد كبير من الشعراء الذين نافسوه من مختلف أقطار الخليج. ولم يكن فوزه مجرد حظ عابر، بل كان نتيجة طبيعية لموهبة صقلتها التجربة ومهارة التعبير، وقدرته على تجسيد الهم الجمعي الخليجي والعربي في قوالب شعرية بليغة، ما جعله يحوز على إعجاب لجنة التحكيم والجمهور معًا.

تميز شعر بن فطيس بأسلوبه السلس الذي يجمع بين عمق المعاني وسهولة الألفاظ، كما برع في تطويع اللغة الشعبية بأسلوب أدبي رفيع جعل قصائده مقروءة ومسموعة في آنٍ معًا. ومن أبرز السمات الفنية التي ميزت شعره: القدرة على استحضار الصور البلاغية دون تعقيد، والبناء الموسيقي المتناغم، والحس الفلسفي في تناول موضوعاته، فضلًا عن الإحساس المرهف الذي يلامس وجدان المتلقي مباشرة. لذلك لا غرو أن نجد قصائده تتناقل في المجالس الشعبية، وتُردد في الاحتفالات، وتُحول إلى شيلات وأغانٍ شعبية.

تنوعت موضوعات شعر محمد بن فطيس بين الغزل والحكمة والفخر والرثاء والسياسة والتأملات الإنسانية. ففي شعر الغزل، قدّم قصائد تمزج بين الحب العذري والنظرة الواقعية، متحررًا من الابتذال، ومستندًا إلى مفردات بدوية عفوية تنبض بالمشاعر الصادقة. أما في مجال الحكمة، فكان لصوته وقعه الخاص، حيثُ استطاع أن يعبر عن تجارب إنسانية بعمق ناضج، رغم صغر سنه حينها، ما دلّ على نضج فكري مبكر، وقدرة فطرية على التقاط المعاني الفلسفية من تفاصيل الحياة اليومية.

ومن أشهر قصائد بن فطيس التي وجدت صدى واسعًا لدى الجمهور قصيدة “راعي الوقفات”، والتي عبّر فيها عن الوفاء، والصدق، والثبات على المبادئ، وهي قيم راسخة في الثقافة القبلية الخليجية. وكذلك قصيدته الشهيرة “عوايد” التي جسدت بأسلوب شاعري فذ الفروقات بين الأصالة والتقليد، والرجولة والتكلف، وهي قصيدة تحولت إلى علامة مميزة في مسيرته الشعرية، لما تحمله من شحنة عاطفية ولغوية، ولما تمتاز به من سبك متماسك ومعانٍ ثاقبة.

واحدة من أهم مميزات شعر محمد بن فطيس أيضًا هي استخدامه الماهر للتضمين الثقافي، إذ أن قصائده تحفل بإشارات دقيقة إلى التراث البدوي، والموروث الشعبي، والمواقف التاريخية، بل وحتى الفلكلور الخليجي، مما يجعلها ليست مجرد نصوص للمتعة السمعية، بل وثائق أدبية تحمل أبعادًا ثقافية وهوية مجتمعية. وقد أسهم ذلك في ترسيخ موقعه كأحد أبرز شعراء الهوية الخليجية المعاصرة.

لقد لعب ابن فطيس دورًا كبيرًا في تجديد الذائقة الشعرية لدى الأجيال الجديدة، التي كانت تميل إلى النصوص النبطية القصيرة والمباشرة، فقدم لهم نموذجًا شعريًا متوازنًا، يجمع بين التراث والمعاصرة، وبين الرصانة والحداثة، ما جعله يحظى بإعجاب واسع لدى مختلف الفئات العمرية والثقافية. كما أسهم حضوره الإعلامي المتزن، ونبرة صوته الهادئة، في تعزيز صورته كرمز ثقافي وشعري، لا سيما وأنه لم ينخرط في النزاعات الشعرية أو الإسفاف اللفظي الذي عرفته بعض ساحة الشعر النبطي في سنوات سابقة.

من الجدير بالذكر أن محمد بن فطيس ليس مجرد شاعر مُنشد، بل مفكر شعبي يعكس في شعره توجهات جيله، وتطلعات مجتمعه، وتاريخ أمته. فشعره يمثل جسرًا بين الماضي والحاضر، حيث يستدعي رموز الصحراء، والخيمة، والناقة، والعقال، في ذات الوقت الذي يتفاعل فيه مع التحولات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي. وهذا الوعي العميق بمكانته كصوت ثقافي هو ما جعله يدير حضوره الإعلامي بعناية واحتراف، ويختار ظهوره في المناسبات بعناية، مبتعدًا عن الابتذال والمجانية، محافظًا بذلك على قيمته الفنية والرمزية.

ولم يكن بن فطيس بعيدًا عن قضايا أمته، إذ شارك في العديد من المناسبات الوطنية والاجتماعية التي عبر فيها بشعره عن تضامنه مع القضايا العربية والإنسانية، من خلال قصائد ذات بعد قومي وإنساني، تبث الحماسة وتحفز الانتماء، كما في قصيدته التي ألقاها تضامنًا مع القدس، والتي عكست وعيه العروبي ورسالته الشعرية النبيلة.

وفي جانب الأداء الصوتي، عُرف محمد بن فطيس بصوته المميز وإلقائه المؤثر، الذي يمزج بين الإحساس الداخلي ونغمة البادية، مما يزيد من عمق القصيدة عند الاستماع إليها. لذلك، لا عجب أن تتحول العديد من قصائده إلى شيلات وأغانٍ تلقى رواجًا كبيرًا، سواء على منصات التواصل الاجتماعي أو في الاحتفالات الوطنية والخليجية، وهو ما أسهم في اتساع نطاق جماهيريته بشكل غير مسبوق.

أما على صعيد التقدير الرسمي، فقد حصل محمد بن فطيس على عدد من الجوائز والتكريمات التي تعكس مكانته في المشهد الثقافي الخليجي، أهمها طبعًا لقب “شاعر المليون” الذي كان نقطة الانطلاق الأكبر، إلى جانب مشاركته في فعاليات ثقافية كبرى داخل قطر وخارجها، في مهرجانات مثل الجنادرية، ومهرجان الدوحة الثقافي، وغيرها من المحافل التي تؤكد أن الشعر في منطقة الخليج لا يزال يحتفظ بوهجه وحضوره، خصوصًا حين يكون بلسان شاعر من طراز بن فطيس.

إن تجربة محمد بن فطيس لا يمكن النظر إليها فقط من زاوية نجاحه الفردي، بل باعتبارها علامة من علامات تجديد الشعر النبطي، وإثباتًا أن هذا الفن الشعبي العريق لا يزال قادرًا على التجدّد، والتمدد، والتعبير عن وجدان الجماهير في العصر الحديث. لقد نجح بن فطيس في أن يكون لسان حال البادية، وأن يعيد للشعر مكانته كوسيلة للتعبير الوجداني، ومرآة للقيم المجتمعية، وأداة فنية تمتلك حيوية لا تزول مع تغير الأزمان.

لقد كتب محمد بن فطيس اسمه في سجلات الشعر النبطي الحديث بماء من ذهب، ليس فقط لأنه شاعر صاحب جماهيرية وشهرة، بل لأنه صاحب رؤية وفكر، يمتلك أدواته الفنية واللغوية، ويعرف كيف يوظفها في صياغة قصيدة تحترم المتلقي، وتُخلّد في الذاكرة. إنه أحد أولئك القلائل الذين جعلوا من الشعر فعلًا ثقافيًا جادًا، ومن القصيدة نافذة على الروح والهوية، ومتنفسًا لجيل يبحث عن الجمال والمعنى في لغة الآباء والأجداد.

المراجع:

1. مقابلات ولقاءات محمد بن فطيس على قناة شاعر المليون – هيئة أبوظبي للإعلام.

2. مجموعة قصائد منشورة في ديوان “راعي الوقفات” – دار كتارا للنشر، الدوحة.