تحليل قصيدة “سربروس في بابل” – بين الأسطورة والرمز الحضاري
تُعدّ قصيدة “سربروس في بابل” واحدة من الأعمال الشعرية المعاصرة ذات البنية الرمزية العميقة التي تنفتح على تأويلات متعددة في ضوء توظيفها للأسطورة والمكان والزمن بوصفها أدوات شعرية تحمل دلالات تتجاوز البنية اللغوية السطحية لتنفذ إلى أعماق التاريخ والوعي الجمعي والحضارة الإنسانية. القصيدة تنتمي إلى نمط الشعر الذي يندمج فيه الميثولوجي بالتاريخي، ويتشابك فيه الواقعي بالرمزي، لتقديم رؤية شعرية شديدة الكثافة والغموض في آنٍ واحد.
يستلهم الشاعر في هذه القصيدة رمزين محوريين: “سربروس” الكلب الأسطوري ذو الرؤوس الثلاثة الحارس لبوابة العالم السفلي في الميثولوجيا الإغريقية، و**”بابل”** المدينة السومرية العريقة التي تمثل في الوعي الثقافي الإنساني رمزًا للحضارة واللغة والسقوط والشتات. ومن خلال هذا التداخل بين الرمز الحيواني الجحيمي والمدينة المتحضرة القديمة، تتبلور شبكة من الدلالات المعقدة التي تشكل البنية التحتية للقصيدة.
التشكيل الأسطوري للرموز
يُوظف الشاعر شخصية “سربروس” بوصفها أداة رمزية لعدة طبقات من المعنى. هذا الكلب الأسطوري الذي يقف حارسًا لعالم الموتى يتحول في السياق الشعري إلى كائن يقف على بوابة بابل، المدينة التي شهدت صعود الإنسان الأول نحو بناء حضارته، ثم سقوطه إلى مستنقعات الحروب والطغيان والشتات. هذا التوظيف الرمزي يقلب المعادلة التقليدية للميثولوجيا الإغريقية، فبدلًا من أن يحرس سربروس الجحيم في عالم الأساطير، يصبح في القصيدة حارسًا لعالم التاريخ الفعلي، وكأننا بإزاء إسقاط للجحيم الميثولوجي على الواقع الحضاري.
سربروس في هذا السياق ليس مجرد كلب أسطوري، بل يتحول إلى رمز للرقابة التاريخية، أو السلطة الحارسة لذاكرة الخراب. أما رؤوسه الثلاثة فهي ليست وصفًا تشريحيًا فحسب، بل إشارة إلى تعدد أوجه الفتك: رأس يُمثل القمع، ورأس يُجسد الحرب، ورأس يُشير إلى المعرفة المزيفة التي قادت الإنسان إلى السقوط.
بابل كفضاء حضاري متشظٍّ
من ناحية أخرى، تمثل “بابل” في القصيدة أكثر من مجرد مدينة تاريخية. فهي هنا رمز مزدوج: رمز للعظمة الحضارية من جهة، ورمز للشتات والسقوط من جهة أخرى. يحضر في القصيدة صوت المدينة ككائن حي يتألم، تتحدث بابل بلغة الموتى، تتنفس من خلال الشقوق، وتبكي بصمت عبر أنقاضها.
يوظف الشاعر في بناء صورة بابل عددًا من التقنيات البلاغية والتصويرية مثل الاستعارة المكانية والتشخيص، فيحول المدينة إلى أم تنزف، إلى معبد منهار، إلى برج شاهق فقد توازنه وسقط على الأرض لا ليهوي فقط، بل ليدفن معه ذاكرة الإنسان عن المعنى.
بنية القصيدة ومناخها اللغوي
من الناحية البنيوية، تعتمد القصيدة على تراكم الصور المتلاحقة المتشابكة، حيث تُبنى كل صورة شعرية على أنقاض سابقتها، وتُركب الجمل بطريقة شبه حلزونية تستدعي الالتفاف لا الخطية. فالنص لا يسير في اتجاه واحد، بل يدور في فضاء مغلق يشبه حلقة أسطورية أو طقسًا طقوسيًا. وهو ما يعزز من البُعد الطقوسي الرمزي للقصيدة، ويُدخل القارئ في دائرة تأمل مستمرة.
أما من ناحية اللغة، فإن الشاعر يستخدم لغة مكثفة، مشحونة بالإيحاءات، مبتعدة عن البساطة المباشرة، بل وتستند إلى قاموس يتقاطع فيه المفرد التاريخي مع المفرد الديني والرمزي. فمثلاً نجد كلمات مثل: “الهاوية”، “الهذيان البابلي”، “أنياب الحارس”، “الألواح المسمارية”، “العرافة العمياء”، وغيرها، مما يشحن النص بدلالات حضارية ومعرفية متراكبة.
دلالات الزمان والمكان
تلعب الأزمنة المتعددة دورًا مهمًا في بنية القصيدة. فهي تنتقل ما بين الماضي السحيق، حيث تُستدعى بابل كحاضرة للمعرفة والسحر، إلى الزمن الحاضر حيث تقف المدينة مدمّرة، ثم إلى المستقبل الغائم الذي تُلمّح القصيدة إلى أنه قد يكون امتدادًا للخراب إن لم يتمكن الإنسان من التحرر من “سربروسه” الداخلي.
كذلك فإن للمكان دلالة رمزية معقدة. فبابل ليست فقط موقعًا جغرافيًا، بل هي كناية عن الوعي الحضاري، عن الكلمة الأولى، عن بداية العقل. وفي مقابل بابل تقف صورة “العالم السفلي”، حيث تلتقي الرمزية البابلية القديمة بأسطورة “سربروس” القادم من اليونان، في مزج بين الشرق والغرب، بين الأسطورة الشرقية وقرينتها الغربية.
الرؤية الفلسفية للقصيدة
تطرح “سربروس في بابل” رؤية فلسفية مشحونة بالقلق الوجودي، وهي رؤية تنبني على سؤال جوهري: إلى أين تمضي الحضارة إذا كان حارسها وحاميها هو رمز للموت والرقابة والخراب؟ في هذا الطرح، يظهر “سربروس” ليس ككائن خارجي، بل ككائن نما داخل المدينة نفسها، خرج من رحمها، وهو ما يشير إلى أن الخراب قد يكون ناتجًا عن خلل داخلي في بنية الحضارة.
كذلك فإن القصيدة تُلمّح إلى أن التاريخ البشري، من بابل حتى اللحظة المعاصرة، هو تاريخ مأزوم، تدور أحداثه ضمن دورة مغلقة من البناء ثم التدمير، التقديس ثم التدنيس، النور ثم العتمة. وهذه الدورة تتكرر كما لو كانت لعنة حضارية لا فكاك منها.
البنية الصوتية والإيقاع الداخلي
من الناحية الإيقاعية، تعتمد القصيدة على بنية صوتية داخلية متجانسة تعتمد التكرار اللفظي، والتدوير النغمي، وتقطيع الجمل الشعرية إلى وحدات متجاورة تُحدث أثرًا سمعيًا يتناسب مع الطابع الأسطوري للقصيدة. الإيقاع هنا لا يُنتج غنائية مفرطة، بل يُرسّخ جوًا من التوتر والترقب، وهو ما يعكس البنية النفسية لذات الشاعر، وكأن النص لا يُلقى بل يُتلى، لا يُقرأ بل يُستحضر في طقس شعائري.
الخاتمة الفكرية
إن “سربروس في بابل” ليست قصيدة عابرة تنتمي إلى أدب الرمز فحسب، بل هي عمل شعري مركّب يستثمر التاريخ والأسطورة والمكان لإعادة قراءة المسار الحضاري الإنساني برؤية نقدية عميقة. يضع الشاعر أمام القارئ مرآة مشروخة يرى فيها ماضيه وحاضره ومستقبله ممزوجة بصور الهاوية والانهيار. وفي هذا الإطار تتحول القصيدة إلى صرخة شعرية حادة ضد العنف الحضاري، وضد النسيان، وضد التحوّل الداخلي للمقدّس إلى مدنس.
إنها قصيدة تحفر في ذاكرة القارئ، وتدفعه للتأمل في مغزى وجوده الحضاري، وتوقظه من سُبات اللغة الخاملة، عبر صدمة الصورة، وقسوة الرمز، ودهشة البنية.
المراجع:
-
فراس السواح، “مغامرة العقل الأولى”، دار المدى، دمشق.
-
كمال أبو ديب، “جدلية الخفاء والتجلي: دراسات في الشعر العربي الحديث”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
